مرّة اُخرى شمله اللطف الإلهي، لأنّ جمسه كان مريضاً ومتعباً، وكلّ عضو من أعضاء جسمه كان مرهقاً وعاجزاً، وكانت حرارة الشمس تؤذيه، فيحتاج إلى ظلّ لطيف يظلّل جسده. والقرآن هنا يكشف عن هذا اللطف الإلهي بالقول، إنّنا أنبتنا عليه شجرة قرع ليستظلّ بأوراقها العريضة والرطبة (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين).
(اليقطين) تعني- كما قال أصحاب اللغة والتّفسير- كلّ نبات لا ساق له وله أوراق كبيرة، مثل نبات البطّيخ والقرع والخيار وما يشابهها. ولكن الكثير من المفسّرين ورواة الحديث أعلنوا بأنّ المقصود من (اليقطين) هو (القرع)، والذي يجب الإلتفات إليه أنّ كلمة "الشجرة" في اللغة العربية تطلق على النباتات التي لها ساق وأغصان والتي ليس لها ساق وأغصان، وبعبارة اُخرى: تشمل كلّ الأشجار والنباتات، ونقلوا حديثاً لرسول الله (ص)، قالوا فيه: إنّ شخصاً سأل رسول الله (ص): إنّك تحبّ القرع؟ فأجاب رسول الله (ص): "أجل هي شجرة أخي يونس"(4).
وقيل: إنّ أوراق شجرة القرع، إضافةً إلى أنّها كانت كبيرة ورطبة جدّاً ويمكن الإستفادة منها كظلّ جيّد، فإنّ الذباب لا يتجمّع حول هذه الأوراق، ولهذا فإنّ يونس (ع) التصق بتلك الأوراق كي يرتاح من حرقة الشمس ومن الحشرات في
نفس الوقت، إذ أنّ بقاءه في داخل بطن الحوت أدّى إلى أن يصبح جلده رقيقاً جدّاً وحسّاساً، بحيث يتألّم إن استقرّت عليه حشرة.
ويحتمل أنّ الباري عزّوجلّ يريد من هذه المرحلة إكمال الدرس الذي أعطاه ليونس في بطن الحوت، إذ كان عليه أن يحسّ بتأثير حرارة الشمس على جلده الرقيق، كي يبذل جهداً وسعياً أكثر- عندما يتسلّم القيادة في المستقبل- لإنقاذ اُمّته من نار جهنّم، وقد ورد هذا المضمون في روايات متعدّدة(5).
نترك الحديث عن يونس ونعود إلى قومه، فبعد أن ترك يونس قومه وهو غضبان، ظهرت لقومه دلائل تبيّن لهم قرب موعد الغضب الإلهي، هذه الدلائل هزّت عقولهم بقوّة وأعادتهم إلى رشدهم، ودفعتهم إلى اللجوء للشخص (العالم) الذي كان آمن بيونس وما زال موجوداً في المدينة، واتّخاذه قائداً لهم ليرشدهم إلى طريق التوبة.
وورد في روايات اُخرى أنّهم خرجوا إلى الصحراء، وفرّقوا بين المرأة وطفلها، وحتّى بين الحيوانات وأطفالها، وجلسوا يبكون وينتحبون بأعلى أصواتهم، داعين الله سبحانه وتعالى بإخلاص أن يتقبّل توبتهم ويغفر ذنوبهم وتقصيرهم بعدم اتّباعهم نبي الله يونس.
وهنا أزاح الله عنهم سُحُب العذاب وأنزلها على الجبال، وهكذا نجا قوم يونس التائبون المؤمنون بلطف الله(6).
بعد هذا عاد يونس إلى قومه ليرى ماذا صنع بهم العذاب الإلهي؟ ولكن ما إن عاد إلى قومه حتّى فوجىء بأمر أثار عنده الدهشة والعجب، وهو أنّه ترك قومه في ذلك اليوم يعبدون الأصنام، وهم اليوم يوحّدون الله سبحانه.
﴿وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ﴾ القرع فغطته بأوراقها.