التّفسير
الجيش المهزوم:
الآيات السابقة تحدّثت عن المواقف السلبية التي إتّخذها المعارضون لنهج التوحيد والإسلام، ونواصل في هذه الآيات الحديث عن مواقف المشركين. فمشركو مكّة بعد ما أحسّوا أنّ مصالحهم اللامشروعة باتت في خطر، وإثر تزايد إشتعال نيران الحقد والحسد في قلوبهم، ومن أجل خداع الناس وإقناع أنفسهم عمدوا إلى مختلف الإدّعاءات بمنطق زائف لمحاربة رسول الله (ص)، ومنها سؤالهم بتعجّب وإنكار (أأنزل عليه الذكر من بيننا).
ألم يجد الله شخصاً آخر لينزل عليه قرآنه، غير محمّد اليتيم والفقير- خاصّة وأنّ فينا الكثير من الشيبة وكبار السنّ الأثرياء المعروفون.
هذا المنطق لم يكن منحصراً بذلك الزمان فقط، وإنّما يتعدّاه إلى كلّ عصر وزمان، وحتّى في زماننا، فإن تولّى شخص ما مسؤولية مهمّة طفحت قلوب الآخرين بالغيظ والحسد، وبدأت ألسنتهم بالثرثرة وتوجيه النقد والطعن: ألم يكن هناك شخص آخر حتّى توكّل هذه المهمة بالشخص الفلاني الذي هو من عائلة فقيرة وغير معروفة؟
نعم، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى يشتركون بعض الشيء مع المسلمين، ولكن حبّ الدنيا من جهة، وحسدهم من جهة اُخرى، تسبّبا في أن يبتعدوا عن الإسلام والقرآن، ويقولوا إلى عبدة الأصنام: إنّ الطريق الذي تسلكونه أفضل من الطريق الذي سلكه المؤمنون (ألم تر إلى الذين اُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذي آمنوا سبيلا).(1)
من البديهي أنّ إشكال التعجّب والإنكار المتولّدة عن الخطأ في "تحديد القيم" إضافة إلى الحسد وحبّ الدنيا، لا يمكن أن تكون معياراً منطقياً في القضاء، فهل أنّ شخصيّة الإنسان تحدّد باسمه أو مقدار ماله أو مقامه أو حتّى سنّه؟ وهل أنّ الرحمة الإلهيّة تقسّم على أساس هذا المعيار؟
لهذا فإنّ تتمّة الآية تقول: إنّ مرض اُولئك شيء آخر، إنّهم في حقيقة الأمر يشكّكون في أمر الوحي وأمر الله (بل هم في شكّ من ذكري).
ملاحظاتهم التي لا قيمة لها على شخصيّة الرّسول ما هي إلاّ أعذار واهية، وشكّهم وتردّدهم في هذه المسألة ليس بسبب وجود إبهام في القرآن المجيد، وإنّما بسبب أهوائهم النفسية وحبّ الدنيا وحسدهم.
وفي نهاية الأمر فإنّ القرآن الكريم يهدّدهم بهذه الآية (بل لمّا يذوقوا عذاب)أي إنّ هؤلاء لم يذوقوا العذاب الإلهي، ولهذا السبب جسروا على رسول الله (ص) ودخلوا المعركة ضدّ الوحي الإلهي بهذا المنطق الأجوف.
نعم، فهناك مجموعة من الناس لا ينفع معها المنطق والكلام، ولكن سوط العذاب هو الوحيد الذي يحطّ من تكبّرهم وغرورهم، لذا يجب أن يعاقب اُولئك بالعقاب الإلهي كي يشفوا من مرضهم.
﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾ القرآن ﴿مِن بَيْنِنَا﴾ وليس بأعظم منا رئاسة وشرفا ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي﴾ من القرآن لتركهم النظر ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ أي لو ذاقوه لزال شكهم وصدقوا ولم ينفعهم حينئذ