لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
على أيّة حال، فالله سبحانه وتعالى شمل عبده داود بلطفه وعفا عن زلّته من حيث ترك العمل بالأولى، كما توضّحه الآية التالية (فغفرنا له ذلك). وإنّ له منزلة رفيعة عند الله (وإنّ له عندنا لزلفى وحسن مآب). "زلفى" تعني المنزلة (والقرب عند الله) و (حسن مآب) إشارة إلى الجنّة ونعم الآخرة. بحوث 1- ما هي حقيقة وقائع قصّة داود؟ الذي وضّحه القرآن المجيد في هذا الشأن لا يتعدّى أنّ شخصين تسوّرا جدران محراب داود (ع) ليحتكما عنده، وأنّه فزع عند رؤيتهما، ثمّ إستمع إلى أقوال المشتكي الذي قال: إنّ لأخيه (99) نعجة وله نعجة واحدة، وإنّ أخاه طلب منه ضمّ هذه النعجة إلى بقيّة نعاجه، فأعطى داود (ع) الحقّ للمشتكي، وإعتبر طلب الأخ ذلك من أخيه ظلماً وطغياناً، ثمّ ندم على حكمه هذا، وطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه ويغفر له، فعفا الله عنه وغفر له. وهنا تبرز مسألتان دقيقتان أيضاً: الاُولى مسألة الإمتحان، والثانية مسألة الإستغفار. القرآن الكريم لم يفصّل الحديث بشأن هاتين المسألتين، إلاّ أنّ الدلائل الموجودة في هذه الآيات والروايات الإسلامية الواردة بشأن تفسيرها تقول: إنّ داود كان ذا علم واسع وذا مهارة فائقة في أمر القضاء، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحنه، فلذا أوجد له مثل تلك الظروف غير الإعتيادية، كدخول الشخصين عليه من طريق غير إعتيادي وغير مألوف، إذ تسوّرا جدران محرابه، وإبتلائه بالإستعجال في إصدار الحكم قبل الإستماع إلى أقوال الطرف الثاني، رغم أنّ حكمه كان عادلا. ورغم أنّه إنتبه بسرعة إلى زلّته، وأصلحها قبل مضيّ الوقت، ولكن مهما كان فإنّ العمل الذي قام به لا يليق بمقام النبوّة الرفيع، ولهذا فإنّ إستغفاره إنّما جاء لتركه العمل بالأولى، وإنّ الله شمله بعفوه ومغفرته. والشاهد على هذا التّفسير إضافة إلى ما ذكرناه قبل قليل- هو الآية التي تأتي مباشرةً بعد تلك الآيات، والتي تخاطب داود (ع): (ياداود إنّا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحقّ ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله). وهذه الآية تبيّن أنّ زلّة داود كانت في كيفية قضائه وحكمه. وبهذا الشكل فإنّ الآيات المذكورة أعلاه لا تذكر شيئاً يقلّل من شأن ومقام هذا النّبي الكبير. 2- التوراة والقصص الخرافية بشأن داود الآن نتصفّح كتاب التوراة لنشاهد ماذا ذكر فيه عن هذه الواقعة، لنعثر على الأساس الذي إعتمد عليه بعض المفسّرين الجهلة وغير المطّلعين في تفسير هذه الآيات. جاء في "التوراة" وفي الكتاب الثاني "اشموئيل" الإصحاح الحادي عشر من الجملة الثانية وحتّى السابعة والعشرين: "وكان في وقت المساء، أنّ داود قام عن سريره وتمشّى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحمّ وكانت المرأة جميلة المنظر جدّاً. فأرسل داود وسأل عن المرأة فقيل: إنّها (بتشبع)(3) بنت (اليعام) وزوجة (أوريّا الحِتّي)(4). فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت عليه، فاضطجع معها وهي طاهرة من طمثها، ثمّ رجعت إلى بيتها، وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود بأنّها حبلى. وبعد علمه بحمل (بتشبع) بعث داود برسالة إلى (يوآب)(5) طلب منه فيها أن يبعث (أوريّا) إليه، فبعث (يوآب) (أوريّا) إليه، وفور وصوله إلى قصر داود، إستفسر منه عن سلامة (يوآب) وسلامة الجيش وعن سير المعارك. وهنا أمر داود (أوريّا) بأن يذهب إلى بيته ويغسل رجليه، فخرج أوريّا من قصر داود، وبعث داود خلفه أنواعاً من الطعام، إلاّ أنّ أوريّا نام عند باب قصر داود مع بقيّة عبيد سيّده داود ولم يذهب إلى بيته، وعندما علم داود أنّ أوريّا لم يذهب إلى بيته، قال داود لأوريّا: ألم تكن قد عدت من السفر؟ فلماذا لا تذهب إلى بيتك؟ فقال لداود: إنّ الصندوق وإسرائيل ويهودا وسيّدي (يوآب) وعبيد سيّدي يعيشون تحت الخيام في الصحراء؟ فهل يصحّ أن أذهب إلى بيتي لآكل وأشرب وأنام فيه؟ أقسم بحياتك أنّي لا أفعل ذلك. وفي الصباح بعث داود برسالة إلى (يوآب) بيد (أوريّا) وكتب في الرسالة يقول: اجعلوا أوريّا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت، ففعل به ذلك فقتل وأخبر داود بذلك. فلمّا سمعت امرأة أُوريّا أنّه قد مات ندبت بعلها، ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمّها إلى بيته وصارت له امرأة، وأمّا الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الربّ"(6). خلاصة هذه القصّة إلى هنا تكون كالآتي: في إحدى الأيّام صعد داود إلى سطح القصر فوقعت عيناه على البيت المجاور فرأى امرأة عارية تغتسل، فأحبّها، وتمكّن بإحدى الطرق من جلبها إلى بيته، فاضطجع معها فحملت منه. وزوج هذه المرأة كان أحد الضبّاط المشهورين في جيش داود وكان طاهراً نقيّاً، قتله داود (نعوذ بالله من هذا الكلام) بمؤامرة جبانة عندما بعثه إلى منطقة خطرة جدّاً في ساحة الحرب، ثمّ تزوّج داود زوجته. والآن نواصل سرد بقيّة القصّة على لسان التوراة الحالي إذ جاء في الإصحاح الثاني عشر من كتاب صموئيل الثاني "أنّ الربّ أرسل (ناثان) أحد أنبياء بني إسرائيل ومستشار داود في نفس الوقت، وقال له: كان رجلان في مدينة واحدة، واحد منهما غني والآخر فقير، وكان للغني غنم وبقر كثيرة جدّاً، وأمّا الفقير فلم يكن له شيء إلاّ نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها وربّاها، فجاء ضيف إلى الرجل الغني فأبى أن يأخذ من غنمه ومن بقره ليهيء للضيف الذي جاء إليه فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيّأ لضيفه. فحمي غضب داود، وقال لناثان، أقسم بالربّ أنّ الشخص الذي إرتكب هذا العمل يستحقّ القتل، وعليه أن يردّ النعجة بأربعة أضعاف. وهنا قال ناثان لداود: إنّ ذلك الرجل هو أنت! فانتبه داود للعمل غير الصحيح الذي قام به، فدعا الله ليتوب عليه، فتاب الله عليه، وأنزل في نفس الوقت إبتلاءات كبيرة على داود". هذا وقد إستخدمت التوراة عبارات يجلّ القلم عن ذكرها، لهذا نصرف النظر عنها. وفي هذا الجزء من القصّة التي إستعرضتها التوراة يمكن للمتتبّع ملاحظة ما يلي: 1- لم يأت أحد متظلّماً وشاكياً إلى داود، وإنّما جاءه أحد أنبياء بني إسرائيل، الذي هو مستشار داود في نفس الوقت، وذكر له قصّة يستهدف منها وعظ داود، والقصّة هي بشأن شخصين الأوّل غني والثاني فقير، الغني يملك أعداداً كبيرة من الغنم والبقر، أمّا الفقير فلا يملك سوى نعجة واحدة صغيرة، والغني أخذ نعجة الرجل الفقير وهيّأها لضيفه. إلى هذا المقدار من القصّة لا يوجد أي تطرّق لتسوّر جدران المحراب وفزع داود وتخاصم الشخصين عنده، إضافةً إلى طلب العفو والمغفرة. 2- داود (ع) إعتبر الغني طاغية ويستحقّ القتل لماذا يقتل من أجل نعجة واحدة)؟! 3- لماذا تسرّع داود (ع) في إصدار الحكم، إذ قال: يجب على الغني أن يردّ النعجة بأربعة أضعاف؟ 4- داود يعترف بذنبه مع زوجة أوريّا. 5- لماذا يعفو الله عزّوجلّ عنه وبهذه السهولة؟! 6- الله سبحانه وتعالى يذكر عقوبات عجيبة ستطال داود من الأفضل عدم ذكرها هنا. 7- هذه المرأة (مع ماضيها المشهور) هي اُمّ سليمان (ع)! رغم أنّ نقل مثل هذه القصص مؤلم حقّاً، ولكن ما العمل، إذ أنّ بعض الجهلة غير المطّلعين من المتأثّرين بالروايات الإسرائيليّة، أساؤوا إلى تفسير القرآن الكريم الطاهر، بإقحامهم مثل هذه الروايات فيه، ولا يوجد أمامنا سبيل إلاّ ذكر أجزاء من تلك القصص الفاضحة لردّها. والآن نسأل: 1- هل يمكن إتّهام نبي مدحه الباري عزّوجلّ في قرآنه الكريم بعشر صفات عظيمة، ودعا نبيّنا الأكرم محمّد (ص) إلى أن يستلهم من سيرته، هل يمكن إتّهامه بتلك التهم. 2- هل تتطابق هذه الأراجيف مع آيات القرآن التالية: (ياداود إنّا جعلناك خليفة في الأرض). 3- إذا إرتكب شخص عادي- وليس أحد الأنبياء- مثل هذا العمل الإجرامي للإعتداء على زوجة ضابط وفيّ وطاهر ومؤمن ومن خلال عملية خبيثة، بماذا سيحكم الناس عليه وما هي عقوبته؟ فالفاسق يتنزّه عن هذا العمل الشنيع، فكيف بنبي الله داود؟ وممّا يجدر ذكره أنّ التوراة لا تعتبر داود نبيّاً، وإنّما تعتبره ملكاً عادلا له مكانة مرموقة، وأنّه مشيّد المعبد الكبير لبني إسرائيل. 4- الطريف في الأمر أنّ كتاب (مزامير داود) هو أحد كتب التوراة، وقد جمعت فيه مناجات وأحاديث داود، فهل يمكن درج أحاديث ومناجاة مثل هذا الإنسان في طيّات الكتب السماوية؟ 5- لو طرحت هذه القصص على شخص لا يمتلك سوى القليل من العقل والإدراك، لأعترف بأنّ قصص التوراة المحرّفة حالياً ما هي إلاّ خرافات، وأنّ أعداء نهج الأنبياء أو أشخاص جهلة غير مطّلعين صاغوا مثل هذه الخرافات، فكيف يمكن أن تكون هذه الخرافات معياراً للبحث؟ نعم فعظمة القرآن المجيد تبرز من خلال خلوّه من هذه الخرافات. 3- الأحاديث الإسلامية وقصّة داود (ع): الرّوايات والأحاديث الإسلاميّة كذّبت بشدّة تلك القصص الخرافية والقبيحة الواردة في التوراة. ومن جملة تلك الأحاديث، ما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)يقول فيه: "لا اُوتي برجل يزعم أنّ داود تزوّج امرأة أوريّا إلاّ جلدته حدّين حدّاً للنبوّة وحدّاً للإسلام"(7). لماذا، لأنّ المزاعم المذكورة تتّهم من جهة إنساناً مؤمناً بإرتكاب عمل محرّم، ومن جهة اُخرى تنتهك حرمة مقام النبوّة، ومن هنا حكم الإمام بجلد من يفتري عليه(ع) مرّتين (كلّ مرّة 80 سوطاً). كما ورد حديث آخر لأمير المؤمنين (ع) يعطي نفس المعنى، جاء فيه "من حدّثكم بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلدته مئة وستّين"(8). وفي حديث آخر نقله الشيخ الصدوق في كتاب (الأمالي) عن الإمام الصادق(ع) قال: "إنّ رضا الناس لا يملك، وألسنتهم لا تضبط، ألم ينسبوا داود إلى أنّه اتّبع الطير حتّى نظر إلى امرأة أوريّا فهواها، وأنّه قدّم زوجها أمام التابوت حتّى قتل ثمّ تزوّج بها!"(9). وأخيراً، ورد حديث في كتاب (عيون الأخبار) في باب مجلس الرضا عند المأمون مع أصحاب الملل والمقالات قال الرضا (ع) لابن الجهم: "وأمّا داود فما يقول من قبلكم فيه"؟ قال: يقولون: إنّ داود كان يصلّي في محرابه إذ تصوّر له إبليس على هيئة طير أحسن ما يكون من الطيور، فقطع داود صلاته وقام يأخذ الطير إلى الدار فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريّا بن حيان. فأطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريّا تغتسل؟ فلمّا نظر إليها هواها، وكان قد أخرج أوريّا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدّم أوريّا أمام التابوت فقدّم فظفر أوريّا بالمشركين فصعب ذلك على داود، فكتب إليه ثانية أن قدّمه أمام التابوت فقدّم فقتل أوريّا وتزوج داود بامرأته. قال: فضرب الرضا (ع) يده على جبهته وقال: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون، لقد نسبتم نبيّاً من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتّى خرج في أثر الطير ثمّ بالفاحشة، ثمّ بالقتل". فقال: يا ابن رسول الله، ما كانت خطيئته؟ فقال: "ويحك إنّ داود (ع) إنّما ظنّ أنّه ما خلق الله خلقاً هو أعلم منه، فبعث الله عزّوجلّ إليه الملكين فتسوّرا المحراب فقال: (خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحقّ ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط، إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزّني في الخطاب) فعجّل داود على المدّعى عليه فقال: (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) ولم يسأل المدّعي البيّنة على ذلك، ولم يقبل على المدّعي عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه، ألا تسمع الله عزّوجلّ يقول: (ياداود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحقّ) إلى آخر الآية. فقال: يا ابن رسول الله، فما قصّته مع أوريّا؟ قال الرضا (ع): "إنّ المرأة في أيّام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوّج بعده أبداً، فأوّل من أباح الله عزّوجلّ له أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها داود (ع)فتزوّج بامرأة أوريّا لمّا قتل وإنقضت عدّتها، فذلك الذي شقّ على الناس من قتل أوريّا"(10). يستفاد من هذا الحديث أنّ مسألة أوريّا كانت لها جذور حقيقيّة بسيطة، وأنّ داود نفّذ ما جاء في الرسالة الإلهيّة، إلاّ أنّ أعداء الله من جهة، والجهلة من جهة اُخرى، إضافةً إلى مؤلّفي القصص الخيالية الذين يكتبون دائماً قصص عجيبة وكاذبة من جهة ثالثة، إختلقوا سيقاناً وأغصاناً وأوراقاً لهذه القصّة كي ينفّروا الإنسان من داود. فأحدهم قال: لا يمكن أن يتمّ هذا الزواج ما لم تكن هنالك مقدّمات له؟ والآخر قال: يحتمل أنّ بيت أوريّا كان مجاوراً لبيت داود! وأخيراً لكي يؤكّدوا أنّ داود (ع) شاهد زوجة (أوريّا) إصطنعوا قصّة الطير، وفي النهاية اتّهموا أحد أنبياء الله الكبار بإرتكاب مختلف أنواع الذنوب الكبيرة والمخزية، وتناقلتها ألسنة الجهلة والبلهاء ولولا انّها مذكورة في الكتب المعروفة لكان من الخطأ ذكرها والتعرّض لها. وبالطبع، فإنّ هذه الرواية لا تختلف عن حديث أمير المؤمنين (ع)، لأنّ حديثه يشير إلى أنّها قصّة كاذبة مزيّفة تنسب إرتكاب الزنا وغيرها من المحرّمات- نعوذ بالله- إلى أحد الأنبياء الكبار. آراء المفسّرين بعض المفسّرين ذكروا آراء اُخرى لقصّة داود، رغم أنّها لا تتناسب مع ظاهر آيات القرآن المجيد، فإنّنا نرى من الضروري الإشارة إلى بعضها لإكمال البحث: منها: أنّ داود (ع) كان قد قسّم ساعات يومه وفق برنامج منظّم، ولم يكن يسمح لأحد بمراجعته إلاّ في الساعات المخصّصة للمراجعة، وفي أحد الأيّام تسوّر شخصان المحراب وقد اتّفقا على قتل داود أثناء فترة عبادته لله سبحانه وتعالى، تسوّرا سور المحراب، ولكن عندما وصلا بالقرب من سور المحراب شاهدوا الجند والحرس يحيطون به من كلّ جانب، وخوفاً من أن ينكشف أمرهما، إختلقا قضيّة كاذبة، وادّعيا أنّهما أتيا إلى داود (ع) ليحكم بينهما، وشرحا القصّة التي تطرّق إليها القرآن الكريم، وقد قضى داود (ع) بينهما، ولكون الهدف من هذه اللعبة كان قتله، فقد غضب وصمّم على الإنتقام منهما، ولم يمض إلاّ وقت قصير حتّى ندم داود على تصميمه هذا واستغفر الله(11). يقول العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان (وأكثر المفسّرين تبعاً للروايات إنّ هؤلاء الخصم الداخلين على داود (ع) كانوا ملائكة أرسلهم الله سبحانه إليه ليمتحنه، وستعرف حال الروايات لكن خصوصيات القصّة كتسوّرهم المحراب ودخولهم عليه دخولا غير عادي بحيث أفزعوه، وكذا تنبّهه بأنّه إنّما كان فتنة من الله له وليس واقعة عادية، وقوله تعالى بعد: (فاحكم بين الناس بالحقّ ولا تتبع الهوى) الظاهر في أنّ الله إبتلاه بما ابتلي لينبّهه ويسدّده في خلافته وحكمه بين الناس، كلّ ذلك يؤيّد كونهم من الملائكة وقد تمثّلوا في صورة رجال من الإنس. (والمقصود من التمثّل هو عدم وجود هؤلاء الأشخاص واقعاً وفي الخارج، بل أنّ ذلك إنعكس في ذهن داود وفي إدراكه). وعلى هذا فالواقعة تمثّل فيه الملائكة في صورة متخاصمين لأحدهما نعجة واحدة، يسألها آخر له تسع وتسعون نعجة، وسألوه القضاء فقال لصاحب النعجة الواحدة: (لقد ظلمك) الخ وكان قوله (ع)- لو كان قضاءاً منجزاً- حكماً منه في ظرف التمثّل، كما لو كان رآهم فيما يرى النائم فقال لهم ما قال وحكم فيهم بما حكم، ومن المعلوم أن لا تكليف في ظرف التمثّل، كما لا تكليف في عالم الرؤيا وإنّما التكليف في عالمنا المشهود، وهو عالم المادّة، ولم تقع الواقعة فيه، ولا كان هناك متخاصمان ولا نعجة ولا نعاج إلاّ في ظرف التمثّل، فكانت خطيئة داود(ع)في هذا الظرف من التمثّل ولا تكليف هناك، كخطيئة آدم (ع) في الجنّة من أكل الشجرة قبل الهبوط إلى الأرض وتشريع الشرائع وجعل التكاليف، وإستغفاره وتوبته ممّا صدر منه كاستغفار آدم وتوبته ممّا صدر منه، وقد صرّح الله بخلافته في كلامه كما صرّح بخلافة آدم (ع) في كلامه)(12). ولكن من المسلّم به أنّ ظاهر الآيات يوضّح أنّ الشكوى والخصام كان من قبل أفراد حقيقيين لهم وجود ظاهري، وفي هذه الحالة لم يكن قضاء داود ذنباً صادراً عنه، خاصّة بعد أن استمع لأقوال أحدهم وحصل عنده علم ويقين في إعطاء الحكم، رغم أنّ الآداب المستحبّة في القضاء توجب عليه أن يتأنّى في إصدار الحكم ولا يتعجّل، وإستغفاره إنّما كان لتركه العمل بالأولى. وعلى أيّة حال، لا توجد أيّة ضرورة لإعتبار وقوع حادثة التحكيم هذه في ظرف التمثّل أو لأجل تنبيه داود (ع). والأفضل أن نحافظ على ظاهر الآيات وتفسيرها بالترتيب الآنف الذكر الذي حفظ ظاهر الآيات دون بروز أيّة مشاكل تمسّ مقام عصمة الأنبياء. ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى﴾ لقربة قبل ذلك وبعده ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ في الجنة روي كانت خطيئته في رسم الحكم من المسارعة إلى قوله لقد ظلمك قبل أن يسأل البينة من المدعي ويقول للمدعى عليه: ما تقول.