على أيّة حال، فإنّ القرآن الكريم- من خلال الآية التالية- يكرّر الحديث بصورة مفصّلة حول قضيّة توبة سليمان التي وردت في آخر عبارة تضمّنتها الآية السابقة: (قال ربّ اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنّك أنت الوهّاب).
هنا يطرح سؤالان:
1- هل يستشفّ البخل من طلب سليمان (ع)؟
ذكر المفسّرون أجوبة كثيرة على هذا السؤال، الكثير منها لا يتطابق مع ظاهر الآيات، والجواب الذي يبدو أكثر تناسباً ومنطقية من بقيّة التفاسير هو أنّ سليمان طلب من الباري عزّوجلّ أن يهب له ملكاً مع معجزات خاصّة، كي يتميّز ملكه عن بقيّة الممالك، لأنّنا نعرف أنّ لكلّ نبي معجزة خاصّة به، فموسى (ع) معجزته العصا واليد البيضاء، ومعجزة إبراهيم (ع) عدم إحراق النار له بعد أن اُلقي فيها، ومعجزة صالح (ع) الناقة الخاصّة به، ومعجزة نبيّنا الأكرم محمّد (ص) هو القرآن المجيد، وسليمان كان ملكه مقترناً بالمعجزات الإلهيّة، كتسخير الرياح والشياطين له مع مميّزات اُخرى.
وهذا الأمر لا يعدّ عيباً أو نقصاً بالنسبة للأنبياء الذين يطلبون من الله أن يؤيّدهم بمعجزة خاصّة، كي يبرهنوا للناس على صدق نبوّتهم، ولهذا فلا يوجد أي مانع في أن يطلب الآخرون ملكاً أوسع وأكبر من ملك سليمان، ولكن لا تتوفّر فيه الخصائص التي اُعطيت لسليمان.
والدليل على هذا الكلام الآيات التالية، والتي هي- في الحقيقة- تعكس إستجابة الباريء عزّوجلّ لطلب سليمان، وتتحدّث عن تسخير الرياح والشياطين لسليمان، وكما هو معروف فإنّ هذا الأمر هو من خصائص ملك سليمان.
ومن هنا يتّضح جواب السؤال الثاني الذي يقول، وفقاً لعقائدنا نحن المسلمون، فإنّ ملك المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) سيكون ملكاً عالياً، وبالنتيجة سيكون أوسع من ملك سليمان. لأنّ ملك المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) مع سعته وخصائصه التي تميّزه عن بقيّة الممالك، فإنّه يبقى من حيث الخصائص مختلفاً عن ملك سليمان، وملك سليمان يبقى خاصّاً به.
خلاصة الأمر أنّ الحديث لم يختّص بزيادة ونقصان وتوسعة ملكه وطلب الإختصاص به، وإنّما اختصّ الحديث بكمال النبوّة والذي يتمّ بوجود معجزات خصوصية، لتميّزه عن نبوّة الأنبياء الآخرين، وسليمان كان طلبه منحصراً في هذا المجال.
ولقد ورد في بعض الرّوايات المنقولة عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)في ردّه على سؤال يقول: إنّ دعوة سليمان فيها بخل، إذ جاء في الحديث أنّ أحد المقرّبين عن الإمام الكاظم (ع) وهو علي بن يقطين سأل الإمام (ع) قائلا: أيجوز أن يكون نبي الله عزّوجلّ بخيلا؟
فقال: "لا".
فقلت له: فقول سليمان (ع): (ربّ اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) ما وجهه ومعناه؟
فقال: "الملك ملكان: ملك مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس، وملك مأخوذ من قبل الله تعالى كملك آل إبراهيم وملك طالوت وذي القرنين، فقال سليمان (ع): هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي أن يقول إنّه مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس، فسخّر الله عزّوجلّ له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب، وجعل غدوّها شهراً ورواحها شهراً، وسخّر الله عزّوجلّ له الشياطين كلّ بنّاء وغوّاص، وعلّم منطق الطير ومكّن في الأرض، فعلم الناس في وقته وبعده أنّ ملكه لا يشبه ملك الملوك المختارين من قبل والمالكين بالغلبة والجور.
قال: فقلت له: فقول رسول الله: "رحم الله أخي سليمان بن داود ما كان أبخله"؟
فقال: "لقوله (ع) وجهان: أحدهما: ما كان أبخله بعرضه وسوء القول فيه، والوجه الآخر يقول: ما كان أبخله إن كان أراد ما كان يذهب إليه الجهّال"(2).
﴿قَالَ﴾ انقطاعا أو لخلاف الأولى ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي﴾ لا يكون ﴿لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي﴾ أي غيري وروي لا ينبغي لأحد من بعدي أن يقول إنه مأخوذ بالغلبة والجور ﴿إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾.