التّفسير
هل العلماء والجهلة متساوون؟
الآيات السابقة تحدثت بالأدلة والبراهين عن توحيد ومعرفة الباريء عزّوجلّ، وذلك من خلال عرض بعض الظواهر العظيمة له في الآفاق والأنفس، أما آيات بحثنا فتتحدث في البداية عن التوحيد الفطري وتوضح أن ما يدركه الإنسان عن طريق العقل أو الفهم أو المطالعة في شؤون الخلق موجود بصورة فطرية في أعماقه، وأنّه يظهر أثناء المشاكل وأعاصير الحوادث التي تعصف به، ولكن هذا الإنسان الكثير النسيان يبتلى مرّة اُخرى بالغفلة والغرور فور ما تهدأ العواصف والمشاكل وتقول الآية الكريمة: (وإذا مسّ الإنسان ضر دعا ربّه منيباً إليه) ونادماً من ذنوبه وغفلته.
وعندما يمنّ الله على الإنسان بالنعم ينسى المشاكل والإبتلاءات السابقة التي دعا الله عزّوجلّ من أجل كشفها عنه، قال تعالى: (ثم إذا خوله نعمة منه نسي ماكان يدعوا إليه من قبل)(1).
إذ يجعل لله أنداداً وشركاء ويعمد إلى عبادتها، ولا يكتفي بعبادتها بل يعمد - أيضاً - لإضلال وحرف الناس عن سبيل الله: (وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله).
المقصود هنا من (الإنسان) هم الناس العاديون الذين لم يتربّوا في ظل إشعاعات أنوار تعاليم الأنبياء، ولا يشمل هذا الكلام المؤمنين الذين يذكرون الله في السراء والضراء ويطلبون العون من لطفه دائماً.
المراد من (ضر) هنا كلّ أذى أو محنة أو ضرر يصيب الجسم أو الروح.
"خولناه": من مادة (خول) على وزن (عمل) وتعني المراقبة المستمرة لشيء ما، المراقبة والتوجّه الخاص يستلزم العطاء والبذل، فقد استخدمت هنا بمعنى الهبة.
وقال البعض: إنّ (خول) على وزن (عمل) وتعني الخادم، ولهذا فإنّ كلمة "خوله" تعني الخادم الذين وهب لصاحبه، ثمّ استعملت في كافة أشكال هبة النعم بالتخويل.
والبعض الآخر قال: إنّها تعني الفخر والتباهي، ولهذا فإنّ العبارة المذكورة أعلاه تعني حصول الإنسان على الفخر عن طريق منحه وهبته النعم(2).
ويصورة عامة فإنّ هذه الجملة تعكس إضافة إلى العطاء والهبة، اهتمام الباريء عزّوجلّ الخاصّ بعبده.
عبارة (منيباً إليه) تبيّن أنّ الإنسان في الحالات الصعبة يضع كافّة ستائر غروره وغفلته جانباً، ويترك وراءه كلّ ما كان يعبده أو يتمسك به من دون الله، ويعود إلى الباري، عزّوجلّ، ويستشفّ من مفهوم (الإنابة) هذه الحقيقة وهي أن مبدأ الانسان ومقصده وغايته هو الله تعالى.
"أنداد": جمع (ند) على وزن (ضد) وتعني الشبيه والمثيل، مع وجود بعض الإختلاف وهو أنّ (مثل) لها مفهوم واسع، ولكن (ند) لها معنى واحد، وهو المماثلة في الذات والجوهر.
عبارة (جعل) تبيّن أن تصورات وخيالات الإنسان تصنع مثيلا وشبيهاً لله، الأمر الذي لا يمكن أن ينطبق مع الواقع.
وعبارة (ليضل عن سبيله) تبيّن أن الضالين المغرورين لا يقتنعون بإضلال أنفسهم، وإنّما يعمدون لجر الآخرين إلى وادي الضلال.
وعلى أية حال، فإنّ آيات القرآن المجيد أشارت - مرّات عديدة - إلى العلاقة الموجودة بين (التوحيد الفطري) و (الحوادث الصعبة في الحياة) كما عكست اضطراب الإنسان المغرور الذي يلجأ إلى الله ويوحده بإخلاص فور ما تعصف به العواصف والأعاصير، وكيف أنّه ينسى الله ويعود إلى غروره ولجاجته فور هدوء العاصفة ليسير من جديد في طريق الشرك والضلال.
وما أكثر أمثال هؤلاء الأشخاص المتلونون، وما أقل من ينقلب ويتغير عندما يمنّ الباريء عزّوجلّ عليه بالنصر والنعم والإستقرار.
نعم، فأبسط نسمة هواء تمرّ على حوض ماء تجعل مياه مضطربة، أمّا المحيط الهادي فإنّه لا يتأثر أبداً بأشدّ الأعاصير ولذا سمّي المحيط الهادي.
نهاية الآية تخاطب مثل أُولئك الأشخاص بلغة ملؤها التهديد الصريح والحازم والقاطع: (قل تمتع بكفرك قليلا إنّك من أصحاب النّار).
فهل يمكن أن يكون لإنسان كهذا مصير أفضل من هذا؟!
﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا﴾ راجعا ﴿إِلَيْهِ﴾ لكشف ضره ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ﴾ أعطاه من الخول التعهد والافتخار ﴿نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ﴾ أي الضر الذي كان يدعو ربه إلى كشفه أو ربه الذي كان يدعو ربه إلى كشفه أو ربه الذي كان يتضرع إليه وما بمعنى من ﴿مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا﴾ شركاء ﴿لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا﴾ مدة حياتك الزائلة ﴿إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ في الآخرة