لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
سبب النّزول نقل بعض المفسّرين عن (عبد الله بن مسعود) أنّ جمعاً من الصحابة ملّوا وتضجّروا، فقالوا لرسول الله (ص): حدّثنا حديثاً يزيل السأم من نفوسنا والملل من قلوبنا، فنزلت أول آية من الآيات المذكورة أعلاه معرّفة القرآن بـ (أحسن الحديث)(1). التّفسير الآيات السابقة تحدثت عن العباد الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه، كما تحدثت عن الصدور الرحبة المستعدة لتقبل الحقّ. الآيات التي يدور حولها البحث تواصل التطرق إلى هذا الأمر، كي تكمل حلقات البحوث السابقة الخاصة بالتوحيد والمعاد مع ذكر بعض دلائل النبوّة، إذ تقول الفقرة الأُولى من الآية: (الله نزّل أحسن الحديث). ثم تستعرض خصائص القرآن الكريم، حيث تشرح الخصائص المهمّة للقرآن من خلال بيان ثلاث صفات له: أمّا الخاصية الاُولى فهي(كتاباً متشابهاً) المقصود من (متشابه) هنا هو الكلام المتناسق الذي لا تناقض فيه ويشبه بعضه البعض، فلا تعارض فيه ولا تضادّ، وكلّ آية فيه أفضل من الأُخرى والمتماثل من حيث اللطف والجما ل والعمق في البيان. وهذا بالضبط على عكس العبارات التي يصوغها الإنسان، والتي مهما اعتنى بصياغته فإنّها لن تخلو من الاخطاء والإختلافات والتناقضات، خصوصاً عندما يتسع مجالها وتأخذ أبعاداً أوسع، إذ تلاحظ أنّ بعضها في قمّة البلاغة، والبعض الآخر عادي وطبيعي، ودراسة آثار الكتّاب الكبار المعروفين في مجالي النثر والشعر هي خير شاهد على هذا الموضوع. أمّا كلام الله المجيد فليس كذلك، إذ نرى فيه انسجاماً خارقاً، وتناسقاً لا نظير له في المفاهيم والفصاحة والبلاغة، وهذا بحدّ ذاته يجعل آيات القرآن تحكم وتشهد بأنّه ليس من كلام البشر. أما الخاصية الثّانية فهي (مثاني) - أي المكرر- وهذه الكلمة تشير إلى تكرار بحوثه المختلفة وقصصه ومواعظه، التكرار الذي لا يملّ منه الإنسان، وإنّما على العكس من ذلك، إذ يتشوق لتلاوته أكثر، وهذه إحدى أُسس الفصاحة، إذ يعمد الإنسان أحياناً إلى التكرار وبصور مختلفة وأساليب متنوعة، وذلك إذا أراد التأكيد على أمر ما وجلب الإنتباه إليه والتأثّر به، كي لا يملّ السامع أو يضجر منه. إضافة إلى أنّ مواضيع القرآن المكررة تفسّر إحداها الأُخرى، وتحل الكثير من ألغازه عن هذا الطريق. بعضهم اعتبرها إشارة إلى تكرار تلاوة القرآن وبقائه غضاً طرياً من جراء تكرار تلاوته. والبعض الآخر اعتبرها إشارة إلى تكرار نزول القرآن، فمرّة نزل دفعة واحدة على صدر الرّسول الأكرم(ص) وذلك في ليلة القدر، ومرّة اُخرى بصورة تدريجية استمرت لفترة (23) عاماً. ومن المحتمل أن يكون المراد من التكرار هو ملاءمة القرآن لكلّ زمان، وانكشاف بعض الأُمور الغيبية فيه بمرور السنوات. والتّفسير الأوّل أنسب من بقية التفاسير، رغم عدم وجود أيّ تعارض بين الجميع، بل من الممكن أن تكون جميعها صحيحة(2). أمّا الخاصية الثّالثة فهي (تقشعر منه الجلود) وهذه الخاصية للقرآن فهي مسألة نفوذه وتأثيره العميقين والخارقين (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله). إنّه لوصف وتجسيد لطيف وجميل لنفوذ آيات القرآن العجيب إلى أعماق القلوب، إذ أنّه في بداية الأمر يبعث في القلب شيئاً من الخوف والرهبة، الخوف الذي يكون أساساً للصحوة ولبدء الحركة، والرهبة التي تجعل الإنسان يتحسس مسؤولياته المختلفة. ثمّ تأتي مرحلة الهدوء وقبول آيات الله وتتبعها السكينة والإستقرار. هذه الحالة التدريجية التي تبيّن مراحل (السلوك إلى الله) المختلفة، يمكن إدراكها بسهولة، فالقلوب تقشعر فور ما تسمع آيات التهديد والتحذير النازلة على رسول الله(ص)، ثمّ تهدأ فور ما تسمع آيات الرحمة. التفكير بذات الله ومسألة أبديته وأزليته وعدم محدوديته يوجد عند الإنسان حالة من الرهبة في كيفية معرفة الله، إلاّ أنّ دراسة آثار ودلائل ذاته المقدسة في الآفاق والأنفس تمنح الإنسان نوعاً من الإرتياح والهدوء(3). والتأريخ الإسلامي مليء بالشواهد على التأثير العجيب للقرآن في قلوب المؤمنين، وحتى غير المؤمنين من أصحاب القلوب المستعدة لتقبل الإيمان، فالجاذبية أو النفوذ الخارق للقرآن دليل واضح على أنّ القرآن كتاب نزل من السماء بواسطة الوحي. وقد ورد حديث عن (أسماء)، جاء فيه (كان أصحاب النّبي حقاً إذا قرىء عليهم القرآن - كما نعتهم الله - تدمع أعينهم و تقشعر جلودهم)(4). أمير المؤمنين (ع) وصف هذه الحقيقة بأفضل وجه في الخطبة الخاصة بالمتقين، إذ قال: "أمّا الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا، يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنوا أنّها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أنّ زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم". وفي نهاية الآية يقول تعالى بعد أن بيّن تلك الخصائص: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء). حقاً إنّ القرآن نزل لهداية الجميع، لكن المتقين وطلاب الحقّ والحقيقة هم المستفيدون - فقط - من نوره، أمّا أُولئك الذين تعمدوا إغلاق كافة نوافذ قلوبهم أمام نور القرآن الكريم، و الذين تتحكم بأرواحهم ظلمات التعصب والعناد فقط لا يستفيدون من نور القرآن، وإنّما يزدادون ضلالة من جراء عنادهم وعدائهم، لذلك فإن تتمة الآية تقول: (ومن يضلل الله فما له من هاد). فهذه الضلالة هي التي يضع الإنسان حجر أساسها بيده، ويحكم بناء أساسها بواسطة أعماله الخاطئة والسيئة، ولذلك لا تتنافى اطلاقاً مع إرادة الإنسان وحريته. ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ أي القرآن ﴿كِتَابًا مُّتَشَابِهًا﴾ يشبه بعضه بعضا في البلاغة وحسن النظم والإعجاز ﴿مَّثَانِيَ﴾ الثناء لأنه يثني على الله أو من التثنية لأنه يثنى فيه القصص والمواعظ أو تثنى تلاوته ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ ترتعد خوفا من وعيده ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ بالرحمة والبناء أمره عليها أطلق الذكر ﴿ذَلِكَ﴾ الكتاب ﴿هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء﴾ من المؤمنين لأنهم المنتفعون به ﴿وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ﴾ يخليه وسوء اختياره ﴿فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ عن ضلالة.