لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
سبب النّزول ذكر جمع من المفسرين عن ابن عباس أن سبب نزول هذه الآية هو اعتراض المنافقين على ما ورد من أمثلة في الآيات السابقة ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوقَدَ نَاراً... أَوْ كَصَيِّب مِنَ السَّمَاءِ...﴾، وقالوا إن الله أسمى من أن يضرب مِثلَ هذه الأمثال، وبذلك راحوا يشككون في الرسالة وفي القرآن. وفي هذه الظروف نزلت الآية الكريمة المذكورة. قال آخرون: عند نزول الآيات التي تضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت، بدأ المشركون ينتقدون ويسخرون. التّفسير هل الله يضرب المثل؟! الفقرة الاُولى من الآية تقول: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيي أَنْ يَضْرِبَ مَثَ مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها﴾. ذلك لأن المثال يجب أن ينسجم مع المقصود، بعبارة اُخرى، المثال وسيلة لتجسيد الحقيقة حين يقصد المتحدث بيان ضعف المدّعي وتحقيره فإنّ بلاغة الحديث تستوجب انتخاب موجود ضعيف للتمثيل به، كيما يتضح ضعف أُولئك. في الآية 73من سورة الحج مث يقول سبحانه: ﴿اِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾. يلاحظ في هذا المثال أن الذباب وأمثاله أحسن وسيلة لتجسيد ضعف هؤلاء. وهكذا في الآية 41 من سورة العنكبوت، حين يريد القرآن أن يجسد ضعف المشركين في انتخابهم أولياء من دون الله، يشبههم بالعنكبوت التي تتخذ لنفسها بيتاً، وهو أضعف البيوت وأوهنها: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾. من المؤكد أن القرآن لو ساقَ الأمثلة في هذه المجالات على الكواكب والسماوات لما أدّى الغرض في التصغير والتحقير، ولما كانت أمثلته متناسبة مع أصول الفصاحة والبلاغة، فكأن الله تعالى يريد بهذه الامثلة القول: بأنه لا مانع من التمثيل بالبعوضة أو غيرها لتجسيد الحقائق العقلية في ثياب حسّيّة وتقديمها للناس. الهدف هو إيصال الفكرة، والأمثلة يجب أن تتناسب مع موضوع الفكرة، ولذلك فهو سبحانه يضرب الأمثلة بالبعوضة فما فوقها. وما المقصود من ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ للمفسرين في هذه رأيان: الأوّل: «فوقها» في الصغر، لأن المقام مقام بيان صغر المثال. وهذا مستعمل يفي الحوار اليومي، نسمع مث رجل يقول لآخر: ألا تستحي أن تبذل كل هذا الجهد من أجل دينار واحد؟! فيجيب الآخر: لا، بل أكثر من ذلك أنا مستعد لأبذل هذا الجهد من أجل نصف دينار! فالزيادة هنا في الصغر. الثّاني: «فوقها» في الكبر. أي إن الله يضرب الأمثال بالصغير وبالكبير، حسب مقتضى الحال. لكن الرأي الأوّل يبدو أنسب. ثم تقول الآية: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾. فهؤلاء، بإيمانهم وتقواهم، بعيدون عن اللجاجة والعناد والحقد للحقيقة. ويستطيعون أن يروا الحق بجلاء ويدركوا أمثلة الله بوضوح. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذا مَثَ يُضِلُّ بِهِ كَثيِراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾. هؤلاء يعترضون على هذه الأمثلة لأنّها لا تهدي الجميع، ويزعمون أنها لو كانت من عندالله لاهتدى بها النّاس جميعاً، ولما أدّت الى ضلال أحد! فيجيبهم الله بعبارة قصيرة تحسم الموقف وتقول: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾. فكل هذه الأمثلة من الله، وكلها نور وهداية، لكنها تحتاج إلى عين البصيرة التي تستفيد منها، ومخالفة المخالفين تنطلق من نقص فيهم، لا من نقص في الآيات الإِلهية. بحوث 1 - أهمية المثال في بيان الحقائق: الأمثلة المناسبة لها دور حساس: وعظيم في التوضيح والإقناع والإِفهام. المثال المناسب قد يقرّب طريق الفهم إلى الأذهان بحيث نستعيض به عن الاقتحام في الاستدلالات الفلسفية المعقدة. وأهم من ذلك، نحن لا نستطيع أن نستغني عن الأمثلة المناسبة في تعميم ونشر الموضوعات العلمية الصعبة بين عامة النّاس. ولا يمكننا أن ننكر دور المثال في إسكات الأفراد المعاندين اللجوجين المتعنّتين. على كل حال، تشبيه «المعقول» بــ «المحسوس» أحد الطرق المؤثرة في تفهيم المسائل العقلية، على أن يكون المثال - كما قلنا - مناسباً، وإلاّ فهو مضلّ وخطر. من هنا نجد في القرآن أمثلة كثيرة رائعة شيقة مؤثّرة، ذلك لأنه كتاب لجميع البشر على إختلاف عصورهم ومستوياتهم الفكرية، إنه كتاب في غاية الفصاحة والبلاغة. 2 - لماذا التمثيل بالبعوضة؟ المعاندون اتخذوا من صِغَر البعوضة والذبابة ذريعة للإستهزاء بالأمثلة القرآنية. لكنّهم لو أنصفوا وأمعنوا النظر في هذا الجسم الصغير، لرأوا فيه من عجائب الخلقة وعظيم الصنع والدّقة ما يحيّر العقول والألباب. يقول الإِمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) بشأن خلقة هذا الحيوان الصغير: «اِنّما ضَرَبَ اللهُ الْمَثَلَ بِالْبِعُوضَةِ لاَِنَّ الْبَعُوضَةَ عَلى صِغَر حَجْمِهَا خَلَقَ اللهُ فِيهَا جَمِيعَ مَا خَلَقَ فِي الْفَيلِ مَعَ كِبَرِهِ وَزِيَادَةَ عُضْوَيْنِ آخَرَيْنِ فَأَرَادَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُنَبِّهَ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنينَ عَلى لُطْفِ ﴿لَطِيفِ﴾ خَلْقِهِ وَعَجيبِ صَنْعَتِهِ». يريد الله سبحانه بهذا المثال أن يبين للمؤمنين دقّة الصنع في الخلق، التفكير في هذا الموجود الضعيف على الظاهر، والشبيه بالفيل في الواقع، يبيّن للإِنسان عظمة الخالق. خرطوم هذا الحيوان الصغير يشبه خرطوم الفيل، أجوف، ذو فتحة دقيقة جداً، وله قوّة ماصة تسحب الدم. منح الله هذا الحيوان قوة هضم وتمثيل ودفع، كما منحه أطرافاً وأُذناً وأجنحة تتناسب تماماً مع وضع معيشته. هذه الحشرة تتمتع بحساسية تشعر فيها بالخطر بسرعة فائقة وتفرّ عندما يداهمها عدوّ بمهارة عجيبة، وهي مع صغرها وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات. أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول في هذا الصدد: «كَيْفَ وَلَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَبَهَائِمِهَا وَمَا كَانَ مِنْ مُرَحِهَا وَسَائِمِهَا، وَأَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَأَجْنَاسِهَا، وَمُتَبَلِدَةِ أُمَمِهَا وَأَكْيَاسِهَا، عَلى إِحْدَاثِ بَعُوضَة مَا قَدَرَتْ عَلى إِحْدَاثِهَا، وَلاَ عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلى إِيجَادِهَا، وَلَتَحيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذَلِكَ وَتَاهَتْ، وَعَجَزَتْ قُوَاهَا وَتَنَاهَتْ، وَرَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَة، عَارِفَةً بأَنَّهَا مَقْهُورَة، مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا، مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا». 3 - هداية الله وإضلاله: ظاهر عبارة الآية المذكورة يوحي بأن الهداية والضلال جبريان ومرتبطان بإرادة الله تعالى. بينما العبارة الأخيرة من الآية توضح أن الهداية والضلال مترتبان على أعمال الإنسان نفسه. ولمزيد من التوضيح نقول: إن أعمال الإِنسان وتصرفاته لها نتائج وثمار معيّنة. لو كان العمل صالحاً فنتيجته مزيد من التوفيق والهداية في السير نحو الله ومزيد من أداء الأعمال الصالحة. يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فَرْقَاناً﴾. وإن جنح الإنسان نحو المنكرات، فان الظلمات تتراكم على قلبه، ويزداد نهماً لارتكاب المحرمات، وقد يبلغ به الأمر إلى أن ينكر خالقه، قال تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أسَاؤُوا الْسُّوآى أَنّ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤونَ﴾. وقال أيضاً: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾. والآية التي يدور حولها بحثنا شاهد آخر على ذلك حيث يقول تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾. ممّا تقدم يتضح أن الإنسان حُرّ في انتخاب الطريق في بداية الأمر، وهذه حقيقة يقبلها ضمير كل إنسان، ثم على الإنسان بعد ذلك أن ينتظر النتائج الحتمية لأعماله. بعبارة موجزة: الهداية والضلالة - في المفهوم القرآني - لايعنيان الإجبار على انتخاب الطريق الصحيح أو الخاطىء، بل إن الهداية - المفهومة من الآيات المتعدّدة - تعني توفّر سبل السعادة، والإِضلال: يعني زوال الأرضية المساعدة للهداية، دون أن يكون هناك إجبار في المسألة. توفّر السبل (الذي نسميه التوفيق)، وزوال هذه السبل (الذي نسميه سلب التوفيق)، هما نتيجة أعمال الإنسان نفسه. فلو منح الله فرداً توفيق الهداية، أو سلب من أحد هذا التوفيق، فإنما ذلك نتيجة الأعمال المباشرة لهذا الفرد أو ذاك. ويمكن التمثيل لهذه الحقيقة بمثال بسيط: حين يمرّ الإنسان قرب هاوية خطرة، فإنه يتعرّض لخطر الإِنزلاق والسقوط فيها كلّما اقترب منها أكثر. كما أن إحتمال سقوطه في الهاوية يقلّ كلما ابتعد عنها أكثر، والحالة الاُولى هداية والثانية ضلال. من مجموع ما ذكرنا يتضح الجواب على ما يثار من أسئلة في حقل الهداية والضلال. 4 - «الفاسقون»: هم المنحرفون عن طريق العبودية، لأن الفسق في اللغة إخراج النوى من التمر، ثم انتقل إلى الخروج عن طريق الله. الآية 27 ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً﴾ للحق يوضحه به لعباده المؤمنين ﴿مَّا﴾ أي مثل كان إبهامية تزيد النكرة إبهاما أو زائدة للتأكيد نحو فبما رحمة ﴿بَعُوضَةً﴾ عطف بيان لمثلا أو مفعول يضرب ومثلا حال منه مقدمة لتنكيره أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ والبعوض صغار البق وهو رد على الطاعنين في ضربه الأمثال في كتابه بالذباب والعنكبوت وغيرهما ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ﴾ المثل المضروب ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾ أراد به الحق وإبانته ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا﴾ أي شيء ﴿أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً﴾ من جهة المثل ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ قيل هو جواب ماذا أي إضلال كثير بسبب إنكاره وهداية كثير من جهة قبوله فهو يجري مجرى البيان للجملتين أي إن كلا من الفريقين موصوف بالكثرة وبسببية لهما نسبأ إليه وروي أنه قول الكفار أي لا معنى للمثل لأنه وإن نفع به من يهد به فهو يضربه من يضل به فرد الله عليهم قولهم فقال ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ الخارجين عن دين الله.