ثمّ تناول القرآن المجيد القضيّة من باب آخر، فعدّد النعم الإلهيّة لدفع الناس إلى الشكر (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون)والتأكيد على (الاُذن والعين والعقل) لأنّها الأجهزة التي بها يتعرّف الإنسان على المحسوسات والقضايا، فالأشياء الحسيّة يبلغها بالعين والاُذن، والقضايا غير الحسّية يدركها بالعقل.
ومعرفة أهميّة حاسّتي النظر والسمع يكفي لتصوّر حالة الإنسان الذي يفقدهما، إذ تظلم الدنيا بعينه.
وبفقدان هاتين الحاسّتين بالولادة تفقد حواسّ أُخرى عملها.
فالأصمّ بالولادة يكون بالبداهة أبكم، فإنطلاق اللسان مرتبط بسمع الإنسان وبفقدهما يفقد الإنسان وسيلة إرتباطه مع الآخرين.
وبعد هاتين الحاسّتين اللتين هما مفتاح الإدراك لعالم المادّة، يأتي العقل الذي ينتزع الأفكار ممّا تُموّنه به الحواسّ، ويجتاز الطبيعة إلى ما وراءها، ومهمّته النقد والإستنتاج والترتيب والتعميم وتحليل محصّلة حاسّتي البصر والسمع وسواهما، أفلا يستحقّ الذين لا يشكرونه على هذه الأدوات الثلاث للمعرفة الذمّ واللوم؟ ألا يكفي التدقيق في تفاصيلها دليلا على معرفة الخالق وعظيم إحسانه للعباد؟
وتقديم ذكر الاُذن والعين على العقل في الآية المذكورة له ما يسوّغه.
ولكن لماذا تقدّم السمع على البصر؟ يحتمل - كما يقول العلماء - أنّ اُذن الوليد تعمل أوّلا، ثمّ عينه، فالعينان مغلقتان في عالم الرحم وليست لديهما أي إستعداد وقابلية على مشاهدة أمواج النور، ولذلك تبقيان هكذا بعد الولادة قليلا، ثمّ تتعودّان النور تدريجيّاً.
وليست الاُذنان هكذا، حتّى أنّ بعضهم يرى أنّها قادرة على السماع حتّى في الرحم(4).
فهي تسمع صوت دقّات قلب الاُمّ.
إنّ بيان المواهب الثلاث أعلاه يشكّل دافعاً لمعرفة واهب هذه النعم، وهو المنعم الوحيد حقّاً (مثلما يرى علماء العقائد في بعث شكر المنعم أساساً لوجوب معرفة الله عقلا).
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ﴾ وحد لأنه في الأصل مصدر أو بتقدير حواس السمع ﴿وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ القلوب لتدركوا الدلائل المسموعة والمبصرة ﴿قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ أي تشكرونها شكرا قليلا.