لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
(ومن يهد الله فما له من مضل). ومن البديهي أنّ الضلالة لا تأتي من دون سبب، وكذلك الهداية بل إن كلّ حالة منهما هي استمرار لإرادة الإنسان وجهوده، فالذي يضع قدمه في طريق الضلال، ويبذل أقصى جهوده من أجل إطفاء نور الحقّ، ولايترك أدنى فرصة تتاح له لخداع الآخرين وإضلالهم، فمن البديهي أنّ الله سيضله، ولا يكتفي بعدم توفيقه وحسب، وإنّما يعطّل قوى الإدراك والتشخيص التي لديه عن العمل، ويوصد قلبه الأقفال ويغطي عينيه بالحجب، وهذه هي نتيجة الأعمال التي ارتكبها. أمّا الذين يعزمون على السير إلى الله سبحانه وتعالى بنوايا خالصة، ويخطون الخطوات الأولى في هذا المسير، فإنّ نور الهداية الإلهية يشعّ لينير لهم الطريق، وتهبّ ملائكة الرحمن لمساعدتهم ولتطهير قلوبهم من وساوس الشياطين، فتكون إرادتهم قوية، وخطواتهم ثابتة، واللطف الإلهي ينقذهم من الزلاّت. وقد وردت آيات كثيرة في القرآن المجيد كشاهد على تلك القضايا، وما أشدّ جهل الذين فصلوا بين مثل هذه الآيات وبقية آيات القرآن واعتبروها شاهداً على ما ورد في المذهب الجبري، وكأنّهم لا يعلمون أن آيات القرآن تفسّر إحداها الأُخرى. بل إن القرآن الكريم بقول في نهاية هذه الآية: (أليس الله بعزيز ذي انتقام)وهو خير شاهد على هذا المعنى. وكما هو معروف فإنّ الإنتقام الإلهي هو بمعنى الجزاء على الأعمال المنكرة التي اقترفها الإنسان، وهذا يشير إلى أن إضلاله سبحانه وتعالى للإنسان هو بحدّ ذاته نوع من أنواع الجزاء وردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه، وبالطبع فإن هدايته سبحانه وتعالى للإنسان هي بحد ذاتها نوع أنواع الثواب، وهي ردّ فعل للأعمال الصالحة والخالصة التي يقوم بها الإنسان(3). بحثان 1 - الهداية و الإضلال من الله: "الهداية": في اللغة تعني التوجيه والإرشاد بلطف ودقّة(4)، وتنقسم إلى قسمين (بيان الطريق)، و (الإيصال إلى المطلوب) وبعبارة اُخرى (هداية تشريعية) و (هداية تكوينية)(5). ولتوضيح ذلك نقول: إنّ الإنسان يصف أحياناً الطريق للسائل بدقّة ولطف وعناية ويترك السائل معتمداً على الوصف في قطع الطريق والوصول إلى المقصد المطلوب. وأحياناً اُخرى يصف الإنسان الطريق للسائل ومن ثمّ يمسك بيده ليوصله إلى المكان المقصود. وبعبارة اُخرى: الشخص المجيب في الحالة الأولى يوضّح القانون وشرائط سلوك الطريق للشخص السائل كي يعتمد الأخير على نفسه في الموصول إلى المقصد والهدف، أمّا في الحالة الثانية، فإضافة إلى ما جاء في الحالة الأولى، فإنّ الشخص المجيب يهيء مستلزمات السفر، ويزيل الموانع الموجود، ويحلّ المشكلات، إضافة إلى أنّه يرافق الشخص السائل في سلوك الطريق حتّى الوصول إلى مقصده النهائي لحمايته والحفاظ عليه. و (الإضلال) هو النقطة المقابلة لـ (الهداية). فلو ألقينا نظرة عامة على آيات القرآن لاتضح لنا - بصورة جيدة - أنّ القرآن يعتبر أنّ الظلالة والهداية من الله، أي أن الاثنين ينسبان إلى الله، ولو أردنا أن نعدد كل الآيات التي تتحدث بهذا الخصوص، لطال الحديث كثيراً، ولكن نكتفي بذكر ما جاء في الآية (213) من سورة البقرة: (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)وفي الآية (93) من سورة النحل: (ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء). وأمثال هذه الإيات - الخاصة بالهداية أو الضلال أو أحدهماـ ورد في آيات كثيرة من القرآن المجيد(6). وأكثر من هذا، فقد جاء في بعض الآيات نفي قدرة الرّسول الأكرم(ص) على الهداية وتحديد القدرة على الهداية بالله سبحانه وتعالى، كما ورد في الآية (56) من سورة القصص: (إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء). وفي الآية (272) من سورة البقرة: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء). الدراسة السطحية لهذه الآيات وعدم إدراك معانيها العميقة أدى الى زيغ البعض خلال تفسيرهم لها وانحرافهم عن طريق الهداية ووقوعهم في فخاخ المذهب الجبري، حتّى أنّ بعض المفسّرين المعروفين لم ينجوا من هذا الخطأ الكبير، حيث اعتبروا الضلالة والهداية وفي كلّ مراحلها أمراً جبرياً، والأدهى من ذلك أنّهم أنكروا أصل العدالة كي لا ينتقض رأيهم، لأنّ هناك تناقضاً واضحاً بين عقيدتهم وبين مسألة العدالة والحكمة الإلهية، فاذا كنا أساساً نقول بالجبر، فلا يبقى هناك داع للتكليف والمسؤولية وإرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية. أمّا المعتقدون بمذهب الإختيار وأن الإنسان مخير في هذه الدنيا - وأن العقل السليم لا يقبل مطلقاً بأن الله سبحانه وتعالى يجبر مجموعة من الناس على سلوك سبيل الضلال ثمّ يعاقبهم على عملهم ذلك، أو أنّه يهدي مجموعة اُخرى إجبارياً ثم يمنحها - من دون أي سبب - المكافأة و الثواب، و يفضلها على الآخرين لأدائها عملا كانت قد أجبرت على القيام به - فهؤلاء انتخبوا لإنفسهم تفاسير اُخرى لهذه الآيات، كان أهمها: 1 - إنّ المراد من الهداية الإلهية هي الهداية التشريعية التي تأتي عن طريق الوحي والكتب السماوية وإرسال الأنبياء والأوصياء، إضافة إلى إدراك العقل والشعور، أمّا انتهاج السبيل فهو في عهدة الإنسان في كافة مراحل حياته. وبالطبع فإنّ هذا التّفسير يتطابق مع الكثير من الآيات القرآنية التي تتناول موضوع الهداية، ولكن هناك آيات كثيرة اُخرى لا يمكن تطابقها مع هذا التّفسير، لأنّ فيها نوعاً من الصراحة فيما يخص (الهداية التكوينية) و (الإيصال إلى الهدف) كماورد في الآية (56) من سورة القصص: (إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء). في حين أنّنا نعرف أنّ الهداية التشريعية والتوجيه نحو الطريق الصحيح، هي الواجب الرئيسي للأنبياء. 2 - مجموعة اُخرى من المفسّرين فسّروا الهداية والضلال اللذين لهما هنا طابع تكويني على أنّهما الثواب والعقاب، والإرشاد إلى طريق الجنّة والنّار، وقالوا بأن الباريء عزّوجلّ يهدي المؤمنين إلى طريق الجنّة، ويضل عنها الكافرين. إن هذا المعنى صحيح بالنسبة لعدّة آيات فقط، ولكنّه لا يتطابق مع آيات اُخرى تتحدث عن الهداية والإضلال بصورة مطلقة. 3 - مجموعة ثالثة قالت: إنّ المراد من الهداية هو تهيئة الأسباب والمقدمات التي توصل إلى الغرض المطلوب، والمراد من الضلالة هو عدم توفير تلك الأسباب و المقدمات أو حجبها عنهم، والتي عبّر عنها البعض بـ (التوفيق) و (سلب التوفيق) لأنّ التوفيق يعني تهيئة المقدمات للوصول إلى الهدف، وسلب التوفيق يعني عدم تهيئة تلك المقدمات. ووفقاً لهذا فإنّ الهداية الإلهية لا تعني أنّ الباريء عزّوجلّ يجبر الإنسان على الوصول إلى الهدف، وإنّما يضع الوسائل المطلوبة للوصول تحت تصرفهم واختيارهم، وعلى سبيل المثال، وجود مربّ جيد، بيئة سالمة للتربية، أصدقاء وجلساء صالحين، وأمثالها، كلها من المقدمات، ورغم وجود هذه الأُمور فإنّه لا يجبر الإنسان على سلوك سبيل الهداية. وثمّة سؤال يبقى مطروحاً، وهو: لماذا يشمل التوفيق مجموعة دون اُخرى؟ المنحازون لهذا التّفسير عليهم أن ينتبهوا إلى حكمة أفعال الباريء عزّوجلّ ويعطوا دلائل لهذا الإختلاف، فمثلا يقولون: إنّ عمل الخير هو سبب التوفيق الإلهي، وتنفيذ الأعمال الشريرة تسلب التوفيق من الإنسان. وعلى أيّة حال فإنّ هذا التّفسير جيد ولكن الموضوع ما زال أعمق من هذا. 4 - إنّ أدق تفسير يتناسب مع كلّ آيات الهداية والضلال، ويفسرها جميعاً بصورة جيدة من دون أن يتعارض أدنى تعارض مع المعنى الظاهري، وهو أنّ الهداية التشريعية التي تعني (إراءة الطريق) لها خاصية عامّة وشاملة، ولا توجد فيها أي قيود وشروط، كما ورد في الآية (الثالثة) من سورة الدهر: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً و إما كفوراً) وفي الآية (51) من سورة آل عمران: (وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم) ومن البديهي أن دعوة الأنبياء هي مظهر دعوة الله تعالى. لأن كلّ ما عند النّبي هو من الله. وبالنسبة الى مجموعة من المنحرفين والمشركين ورد في الآية (23) من سورة النجم: (ولقد جاءهم من ربّهم الهدى). أمّا الهداية التكوينية فتعني الإيصال إلى الغرض المطلوب، والأخذ بيد الإنسان في كلّ منعطفات الطريق، وحفظه وحمايته من كلّ الأخطار التي قد تواجهه في تلك المنعطفات حتى إيصاله إلى ساحل النجاة، وهي أي الهداية التكوينية - موضع بحث الكثير من آيات القرآن الأُخرى التي لا يمكن تقييدها بأية شروط، فالهداية هذه تخصّ مجموعة ذكرت أوصافهم في القرآن، أمّا الضلال الذي هو النقطة المقابلة للهداية فإنه يخص مجموعة اُخرى ذكرت أوصافهم أيضاً في القرآن الكريم. ورغم وجود بعض الآيات التي تتحدث عن الهداية والإضلال بصورة مطلقة، إلا أن هناك الكثير من الآيات الأُخرى التي تبيّن - بدقة - محدوديتهما، وعندما تضع الآيات (المطلقة) إلى جانب (المحدودة) يتّضح المعنى بصورة كاملة، ولا يبقى أي غموض أو إبهام في معنى الآيات، كما أنّها - أي الآيات - تؤّكد بشدة على مسألة الإختيار وحرية الإرادة عند الإنسان ولا تتعارض معهما. الآن يجب الإنتباه إلى التوضيح التالي: القرآن المجيد يقول في إحدى آياته: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاّ الفاسقين) وفي مكان آخر يقول الباريء عزّوجلّ: (واللّه لا يهدي القوم الظالمين)(7) وهذا يبيّن أن الظلم مقدمة للظلال. ومن هنا يتّضح أن الفسق، أي عدم إطاعة أوامر الباريء تعالى وهو مصدر الضلال. وفي موضع آخر نقرأ: (والله لا يهدي القوم الكافرين)(8)، وهنا اعتبر الكفر هو الذي يهيء أرضية الضلال. وقد ورد في آية اُخرى: (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار)(9) يعني أنّ الكذب والكفر هما مقدمة الضلال. والآية التالية تقول: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب)(10) أي أن الإسراف والكذب يسببان الضلالة. وبالطبع، فإنّ ما أوردناه كان جزءاً يسيراً من آيات القرآن التي تتناول هذا الموضوع، فبعض الآيات وردت مرات عديدة في سور القرآن المختلفة وهي تحمل المعاني والمفاهيم. إن ما يمكن استنتاجه هو أنّ القرآن الكريم يؤكّد على أنّ الضلالة الإلهية تشمل كلّ من توفرت فيه هذه الصفات (الكفر) و (الظلم) و (الفسق) و (الكذب). (الإسراف) فهل أن الضلالة غير لائقة بمن تتوفر فيه مثل هذه الصفات! وبعبارة اُخرى: هل ينجو قلب من يتصف بتلك الصفات القبيحة، من الغرق في الظلمات والحجب؟! وبعبارة اُخرى أوضح: أنّ لهذه الأعمال والصفات آثاراً تلاحق الإنسان شاء أم أبى، إذ ترمي بستائرها على عينيه وأذنيه وعقله، وتؤدي به إلى الضلال، ولكون خصوصيات كلّ الأشياء وتأثيرات كلّ الأسباب إنّما هي بأمر من الله، ومن الممكن أيضاً أن ينسب الإضلال إليه سبحانه وتعالى في جميع هذه الموارد، وهذه النسبة هي أساس اختيار الإنسان وحرية إرادته. هذا فيما يتعلق بالضلالة، أمّا فيما يخص الهداية، فقد وردت في القرآن المجيد شروط وأوصاف تبيّن أنّ الهداية لا تقع من دون سبب وخلاف الحكمة الإلهية. وقد استعرضت الآيات التالية بعض الصفات التي تجعل الإنسان مستحقاً للهداية ومحاطاً باللطف الإلهي، منها: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل الاسلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)(11). إذن فإتباع أمر الله، وكسب مرضاته يهيئان الأرضية للهداية الإلهية. وفي مكان آخر نقرأ: (إن الله يضل من يشاء ويهدي الله من أناب)(12) إذن فالتوبة والإنابة تجعلان الإنسان مستحقاً للهداية. وفي آية اُخرى ورد: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)(13) فالجهاد، وخاصة (الجهاد الخالص في سبيل الله) هو من الشروط الرئيسية للهداية. وأخيراً نقرأ في آية اُخرى: (والذين اهتدوا زادهم هدى)(14) أي أن قطع مقدار من طريق الهداية هو شرط للإستمرار فيه بلطف الباريء عزّوجلّ. نستنتج من ذلك أنّه لو لم تكن هناك توبة وإنابة من العبد، ولا اتباع لأوامر الله، ولا جهاد في سبيله ولا بذل الجهد وقطع مقدار من طريق الحق، فإن اللطف الإلهي لا يشمل ذلك العبد، وسوف لا يمسك الباريء بيده لإيصاله إلى الغرض المطلوب. فهل أنّ شمول هؤلاء الذين يتحلون بهذه الصفات بالهداية هو أمر عبث، أو أنّه دليل على هدايتهم بالإجبار؟ من الملاحظ أنّ آيات القرآن الكريم في هذا المجال واضحة جدّاً ومعناها ظاهر، ولكن الذين عجزوا عن الخروج بنتيجة صحيحة من آيات الهداية والضلال ابتلوا بمثل هذا الإبتلاء و (لأنّهم لم يشاهدوا الحقيقة فقد ساروا في طيق الخيال). إذن يجب القول بأنّهم هم الذين اختاروا لأنفسهم سبيل (الضلال). على أية حال، فإنّ المشيئة الإلهية في آيات الهداية والضلال لم تأت عبثاً ومن دون أي حكمة، وإنّما تتمّ بشرائط خاصّة، بحيث تبيّن تطابق حكمة الباريء عزّوجلّ مع ذلك الأمر. 2 - الإتكال على لطف الله يعتبر الإنسان كالقشة الضعيفة في مهب الرياح العاتية التي تهب هنا وهناك في كلّ لحظة من الزمان، ويمكن أن تتعلق هذه القشة بورقة أو غصن مكسور تأخذه الرياح أيضاً مع تلك القشة الضعيفة، وترميهما جانباً، وحتى إذا تمكنت يد الإنسان من الإمساك بشجرة كبيرة فإنّ الأعاصير والرياح العاتية تقتلع أحياناً تلك الشجرة من جذورها، أمّا إذا لجأ الإنسان إلى جبل عظيم فإن أعتى الأعاصير لا تتمكن من أن تزحزح ذلك الجبل ولو بمقدار رأس إبرة من مكانه. الايمان بالله بمثابة هذا الجبل والإعتماد والإتكال على غير الله بمثابة الاعتماد على الأشياء الواهية، ولهذا السبب يقول الباريء عزّوجلّ في الآيات المذكورة أعلاه: (أليس الله بكاف عبده)الإعتقاد والإيمان بما جاء في هذه الآية يضيف للإنسان شجاعة واعتماداً على النفس، وتطمئن خواطره وتهدئها، كي يصمد ويثبت أمام الحوادث كالجبل، ولا يخاف حشود الأعداء، ولا يستوحش من قلّة عدد أتباعه أو أصحابه،، ولا تعبث المشاكل الصعبة بروحه الهادئة المستقرة، وقد ورد في الحديث "المؤمن كالجبل الراسخ لا تحركه العواصف" ﴿وَمَن يَهْدِ اللَّهُ﴾ يلطف به لكونه أهل اللطف ﴿فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ﴾ غالب أمره ﴿ذِي انتِقَامٍ﴾ من أعدائه.