لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
إنّ العذاب والعقاب الإلهي أليم بمجمله، إلاّ أنّ تعبير "سوء العذاب" يظهر أنّ الله تبارك وتعالى انتخب لهم عذاباً أشد إيلاماً من غيره، وهو ما تشير إليه الآية التي بعدها، حيث قوله تعالى: (النّار يعرضون عليها غدواً وعشياً)(5) ثم: (ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب). وهنا نلفت النظر إلى الملاحظات الثلاث الآتية: أولا: استخدام تعبير (آل فرعون)إشارة إلى العائلة والأنصار و الأصحاب الضالين، وعندما يكون هذا هو مصير الآل، ترى ماذا يكون مصير نفس فرعون؟ ثانياً: تقول الآية: إنهم يعرضون على النّار صباحاً ومساءً، ثمّ تقول: في يوم القيامة يكون العذاب أشد ما يمكن. وهذا دليل على أنّ العذاب الأوّل يختص بعالم البرزخ، وهو ممّا يلي موت الإنسان ومغادرة روحه جسده، ويقع قبل يوم القيامة ... إنّ العرض على نار جهنّم يهز الانسان و يجعله يرتعد خوفاً وهلعاً. ثالثاً: إن تعبير بـ (الغدو) و (العشي) قد تكون فيه إشارة إلى استمرار العذاب. أو قد يفيد انفطاع العذاب البرزخي ليقتصر على (الغدو) و (العشي) أي الصبح والمساء، وهو الوقت الذي يقترن في حياة الفراعنة وأصحابهم مع أوقات لهوهم واستعراضهم لقوتهم وجبروتهم في حياتهم الدنيا. وينبغي أن لا نتعجب هنا من كلمتي (الغدو) و (العشي) فنسأل: وهل في البرزخ ثمّة صباح ومساء؟ لأنّ الصبح و الليل موجودان حتى في يوم القيامة، كما نقرأ في قوله تعالى: (ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشياً)(6). وهذا الأمر لا يتعارض مع دوام نعم الجنّة واستمرارها، كما جاء في الآية (35) من سورة (الرعد) حيث قوله تعالى: (أكلها دائم وظلها) حيث يمكن أن تشمل الألطاف الإلهية أهل الجنّة في خصوص هذين الوقتين، بينماتكون نعم الجنّة دائمة باقية. بحوث أوّلا: مؤمن آل فرعون والدرس العظيم في مواجهة الطواغيت إنّ القليل من الناس يؤمنون بالأديان الإلهية والمذاهب السماوية في بداية الامر ويقومون بتحدي الجبابرة والطواغيت، وإذا توجست هذا القلّة المخلصة خوفاً من أعدائها، أو أنّها شكت بأنّ كثرة دليل على حقانيتهم، فلن يكون بمقدور الأديان الإلهية أن تمتد وتنتشر في الدنيا. إنّ الأساس الذي يتحكم في منطلق هذه البرامج الهادية والأطروحات الوضّاءة، هو قول أمير المؤمنين علي(ع): "أيّها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله"(7). لقد كان مؤمن آل فرعون نموذجاً لهذه المدرسة، وكان من الأوائل في هذا الطريق، وأثبت أنّ الإنسان المؤمن يستطيع بعزمه وإرادته القوية - النابعة من إيمانه بالله تعالى - التأثير حتى في إرادة الفراعنة الجبابرة; بل وأن يوفّر سبل النجاة لنبي كبير من أنبياء أولي العزم. إنّ تأريخ حياة هذا الرجل الشجاع الذكي، يثبت ضرورة أن تكون خطوات أهل الدعوة والحق على غاية قصوى من الدقة والحذر، إذ يجب أحياناً التكتم على الإيمان وإخفاء القناعات الحقة; كما يجب في أحيان اُخرى الجهر بدعوة الحق وإظهار الإيمان. إنّ التقية ليست سوى إخفاء اعتقاد الإنسان والتكتم عليه في فترة معينة في سبيل الأهداف المقدّسة. وكما يعتبر التسلّح بالسلاح المادي الظاهري من ضرورات المنعة وأسباب دحر العدو، كذلك فإنّ المنطق القوي والحجّة البالغة هي سلاح ضروري قد يعادل في تأثيره السلاح المادي عدة مرّات. لذا فإنّ العمل الذي قام به (مؤمن آل فرعون) بواسطة منطقه وقوة حجته وحكمة تصرفه لم يكن ليعادله أي سلاح آخر. ثم إنّ قصة هذا الرجل المؤمن تظهر أنّ الله جلّ وعلا لا يترك عباده المؤمنين وحيدين، بل يحميهم بلطفه عن الأخطار. وأخيراً فإن من الضروري أن نشير إلى حياة مؤمن آل فرعون انتهت كما في بعض الروايات إلى الإستشهاد، وأنّ ما يقوله القرآن من حفظ الله له ووقايته له يمكن تأويله بإنقاذه من براثن خططهم الشيطانية في إغوائه وجرّه إلى ساحة الضلال والشرك، وأنّ الله أنجاه من سوء المنقلب وانحراف العقيدة(8). ثانياً: تفويض الأمور إلى الله فيما يخص التفويض إلى الله تبارك وتعالى يكفي أن نفتتح الحديث بقول لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، جاء فيه: "الإيمان له أربعة أركان: التوكل على الله، وتفويض الأمر إلى الله عزّوجلّ والرضى بقضاء الله، والتسليم لأمر الله"(9). وفي حديث آخر عن الإمام الصادق أنّه(ع)قال: "المفوض أمره إلى الله في راحة الأبد، والعيش الدائم الرغد، والمفوض حقّاً هو العالي عن كلّ همة دون الله"(10). "التفويض" كما يقول الراغب في مفرداته، يعني "التوكل، لذا فإنّ تفويض الأمر إلى الله يأتي بمعنى توكيل الأعمال إليه، وهذا لا يعني أن يترك الإنسان الجد والجهد، إذ أنّ هذا السلوك ينطوي على فهم محرّف لمعنى التفويض، بل عليه أن يبذل كلّ جهده ولا يتخوّف الصعاب التي تواجهه، أو يترك العمل إذعاناً لها، بل عليه أن يسلّم أمره وعمله إلى الله، ويستمر في بذل الجهد بعزم راسخ وهمة عالية. وبالرغم من أنّ "التفويض" يشبه "التوكل" إلى حد كبير، إلاّ أنّه يعتبر مرحلة أفضل منه. لأنّ حقيقة (التوكل) هي أن يعتبر الإنسان الله تبارك وتعالى وكيلا عنه، لكن التفويض يعني التسليم المطلق لله تعالى. وفي حياتنا العملية نرى أنّ الانسان الذي يتخذ لنفسه وكيلا يواصل إشرافه على عمله. إلاّ أنّه في حالة التفويض لا يبقى أي مجال لإشراف من أي نوع، بل تتر ك الأمور إلى من فوّضت إليه. ثالثاً: عالم البرزخ "البرزخ" - كما يدل عليه اسمه - هو عالم يتوسط بين عالمنا هذا والعالم الآخر. وفي القرآن الكريم يكثر الحديث عن العالم الآخر، ولكنّه قليل عن عالم البرزخ. ولهذا السبب هناك هالة من الغموض والإبهام تحيط بالبرزخ، وبالتالي لا نعرف الكثير من خصائصه وجزئياته، ولكن عدم معرفة التفاصيل الجزئية لا تؤثر على أصل الاعتقاد بالبرزخ الذي صرّح القرآن بأصل وجوده. إنّ الآيات أعلاه تعتبر من الآيات التي عبّرت بصراحة عن وجود هذا العالم، حينما قالت: إنّ آل فرعون يعرضون صباحاً ومساءً على النّار قبل القيامة، وذلك كنوع من العقاب البرزخي لهم. من جانب آخر، فإنّ الآيات التي تتحدث عن حياة الشهداء الخالدة بعد الموت، والثواب العظيم الذي ينالهم، تدل هي الأُخرى على وجود (البرزخ). وفي حديث عن رسول(ص) قال: "إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة، وإن كان من أهل النّار فمن النّار، يقال: هذا مقعدك حيث يبعثك الله يوم القيامة"(11). أما الإمام جعفر بن محمّد الصادق(ع) فيقول عن البرزخ: "ذلك في الدنيا قبل يوم القيامة لأنّ في نار القيامة لا يكون غدو وعشي" ثمّ قال: "إن كانوا يعذبون في النّار غدواً وعشياً ففيما بين ذلك هم من السعداء، لا ولكن هذا في البرزخ قبل يوم القيامة، ألم تسمع قوله عزّوجلّ: ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب"(12). الإمام (ع) لم يقل بعدم وجود الصباح والمساء في القيامة، بل يقول: إنّ نار جهنّم أبدية خالدة لا تعرف الصباح والمساء. أمّا العقاب الذي له مواقيت في الصباح والمساء فهو عالم البرزخ، ثمّ يدلل(ع) على الجملة التي بعدها والتي تتحدث عن القيامة; على أنّها قرينة بإختصاص الجملة السابقة بالبرزخ. لقد تعرضنا إلى عالم البرزخ مفصلا أثناه الحديث عن الآية (100) من سورة "المؤمنون". ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ أي دائما إلى القيامة أو في الوقتين وفيما بينهما بغيره أو فترة ويدل على عذاب القبر بشهادة ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ أي هذا قبل قيامها فإذا قامت يقال لهم ﴿أَدْخِلُوا آلَ﴾ يا آل ﴿فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ جهنم.