التّفسير
ذلكم الله ربّكم:
تستمر هذه المجموعة من الآيات الكريمة بذكر المواهب الإلهية العظيمة وشمولها للعباد، كي تهب لهم المعرفة، وتُربي في نفوسهم الأمل بالدعاء والتسليم وطلب الحوائج من الله تعالى.
والطريف في الأمر هنا أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن "النعم الزمانية" من ليل ونهار، بينما تتحدث هذه المجموعة عن "النعم المكانية" أي الأرض القرار، والسقف المرفوع (السماء) حيث تقول: (الله الذي جعل لكم الأرض
قراراً).
لقد خلق الله للإنسان الأرض كي تكون مقرّاً هادئاً ومستقراً آمناً له إنّه المكان الخالي من المعوقات الصعبة، متناسق في تشكيلته مع تكوين الإنسان الروحي والجسدي، حيث تتوفر في الارض المصادر المختلفة للحياة والوسائل المتنوعة والمجانية التي يحتاجها لمعيشته.
ثم تضيف الآية: (والسماء بناءاً) أي كالسقف والقبة فوقكم.
و "بناء" كما يقول "ابن منظور"في لسان العرب، تعني البيوت التي كان عرب البادية يستفيدون منها ويستظلون تحتها كالخيم وما يستظل الإنسان تحته.
إنّه تعبير جميل ودال حيث يصوّر السماء كالخيمة التي تغطي أطراف الأرض ولا تنقص منها شيئاً. والمقصود بالسماء هنا الغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض.
إنّ الخيمة الإلهية الكبيرة هذه تقلل من شدّة أشعة الشمس، وعدمها يعرض الأرض إلى الأشعة الكونية الحارقة القاتلة لجميع الكائنات الحية الموجودة على الأرض، لذلك نرى أنّ رواد الفضاء مضطرين لارتداء ملابس خاصة تحميهم من هذه الإشاعات.
إضافة إلى ما تقدم، تمنع الخيمة السماوية سقوط الأحجار التي تنجذب من السماء نحو الأرض، حيث تقوم بإحراقهابمجرّد وصولها إلى غلاف الأرض ليصل رمادها بهدوء الى الأرض.
وإلى هذا المعنى تشير الآية (32) من سورة الأنبياء، حيث يقول تعالى: (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً).
ثمّ ينتقل الحديث من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس، فيقول تعالى: (وصوركم فأحسن صوركم). القامة متوازنة خالية من الإنحراف، وجه في تقاطيع جميلة لطيفة وفي منتهى النظم والإستحكام، إذ يمكن بلمحة واحدة التمييز بين الكائن البشري وبين الموجودات والكائنات الأُخرى.
إنّ الهيكل الإنساني الخاص يؤهل الإنسان لإنجاز مختلف الأعمال من الصناعة والزراعة والتجارة والإدارة، وهو بامتلاكه للأعضاء المختلفة يعيش مرتاحاً مستفيداً من مواهب الحياة وعطايا الخالق.
الإنسان على خلاف أغلب الحيوانات التي تشرب الماء بفمها، فإنّه يحمل المشروبات والمأكولات بيديه، ويقوم بشرب الماء في منتهى الدّقة واللطافة، وهذا الأمر يجعل الإنسان أقدر على انتخاب ما يشاء من الأشربة والأطعمة. ويجعل ما يتناوله نظيفاً غير مخلوط مع غيره. فهو مثلا يقشّر الفاكهة ويهذبها قبل تناولها، ويرمي الأجزاء الزائدة.
لقد ذهب بعض المفسّرين في تفسير: (وصوركم فأحسن صوركم) إلى معنى أوسع من الصورة والشكل الظاهري والتكوين الداخلي، فقال: إن المعنى يتضمن كل الإستعدادات والأذواق التي خلقها الله في الإنسان وأودعها فيه، ففضله بها على كثير ممن خلق.
وفي آخر الحديث عن سلسلة هذه العطايا والمواهب الإلهية، تتحدث الآية عن النعمة الرّابعة، وهي الرزق الطيب بقوله تعالى: (ورزقكم من الطيبات).
"الطيبات" تشتمل على معنى وسيع جدّاً، وهي تشمل الجيد من الطعام واللباس والزوجة والمسكن والدواب، وهي أيضاً تشمل الكلام والحديث الطيب الزكي النافع.
الإنسان يقوم بسبب جهله وغفلته بتلويث هذه المواهب الطاهرة والطيبات اللذيذة، إلاّ أنّ الله أبقى على نقائها وطهرها في عالم الوجود.
بعد بيان هذه المجموعة الرباعية من النعم الإلهية التي تتوزع بين الأرض والسماء وبين خلق الإنسان، تعود الآية للقول: (ذلكم الله ربّكم فتبارك الله ربّ العالمين)(1).
إنّ هذه المواهب تعودلله مدبر الكون خالق السماوات والأرض، لذلك فهو الذي يليق بمقام الرّبوبية لا غير.
﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا﴾ مستقرا ﴿وَالسَّمَاء بِنَاء﴾ سقفا ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ بانتصابكم وتناسب أعضائكم ﴿وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ الملاذ ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.