لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
يقول تعالى: (له مقاليد السماوات والأرض). فكل ما يملكه مالك هو منه سبحانه وتعالى، وكل ما يرغب به راغب ينبغي أن يطلبه منه، لأنّ له تعالى خزائن السماوات والأرض وليس "مفاتيحها" وحسب (ولله خزائن السماوات والأرض)(6). "مقاليد" جمع "مقليد" وتعني المفتاح، وهي تستخدم ككناية للسيطرة الكاملة على كلّ شيء ما، فيقال مثلا: إنّ مفتاح هذا الأمر بيدي، يعني أنّ برنامجه وطريقه وشرائطه كلّها تحت قدرتي وفي يدي.(7). وفي الصفة الأُخرى، والتي هي في الواقع ثمرة ونتيجة للصفة السابقة تقول الآية: (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) لأنّ بيده تعالى جميع خزائن السماوات والأرض ه فإنّ جميع الأرزاق في قبضته، ويقسمها وفقاً لمشيئته التي تصدر يمقتضى حكمته، ويلاحظ فيها مصلحة العباد. إنّ من مقتضيات استفادة جميع الكائنات من رزقه تعالى هو العلم بمقدار حاجتها، ومكانها وسائر شؤون حياتها الأُخرى، لذا تضيف الآية في آخر صفة قوله تعالى: (إنّه بكل شيء عليم). وهناك ما يشبه هذا الأمر وهو ما جاء في الآية (السادسة) من سورة "هود" في قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين). وبذلك يتّضح أنّ الآيات الأربع التي يحثناها ذكرت إحدى عشرة صفة من صفات الله الكمالية سواء الذاتية منها أو الفعلية. فقد وصفته بصفات الولاية المطلقة، إحياء الموتى، قدرته على كلّ شيء، خلقه للسماوات والأرض، خلقه للإزواج وتكثير النسل، لا يوجد مثيل له، سميع، بصير، له خزائن السماوات والأرض، رزاق، وعليم بكل شيء. إنّها صفات تكمل الواحدة منها الأُخرى من حيث البيان، وكلّها دليل على ولايته وربوبيته، وبالنتيجة تعتبر طريقاً لإثبات توحيده في العبادة. بحوث 1ـ معرفة صفات الله تعالى إنّ علمنا وعلوم الكائنات جميعاً محدود، لذا لا نستطيع أن نصل إلى كنه وحقيقة ذات الخالق غير المحدودة، لأنّ المعرفة بحقيقة شيء ما تعني الإحاطة به، فكيف يستطيع الكائن المحدود أن يحيط بالذات غير المحدودة؟ وكذلك الحال بالنسبة لصفات الله، إذ لا يمكن معرفتها بالنسبة لنا، خصوصاً وأنّ صفاته هي عين ذاته. لذلك فعلمنا بذات الخالق وصفاته هو علم اجرايى، وأكثر ما يدور حول آثاره جلّ وعلا. من جانب آخر لا تستطيع ألفاظنا أن تبيّن ذات الله وصفاته المطلقة غير المحدودة، لأنّ ألفاظنا موضوعة لتلبية حاجاتنا في حياتنا اليومية، لذلك سوف نصل إلى معاني خاطئة من خلال استخدام ألفاظنا في توصيف صفات الخالق الكمالية، كالعلم والقدرة والحياة والولاية والماكلية، وسائر الصفات الأُخرى. نقول مثلا: إنّ الله هو "الأول" وهو أيضاً "الآخر" هو "الظاهر" وهو "الباطن" هو مع كلّ شيء وليس مع شيء، وبعيد عن كلّ شيء إلاّ أنّهُ ليس غربياً عنهُ. قد يبدو في بعض هذه الألفاظ تناقض أو تضاد، لأنّ معاني الألفاظ نقيسها على الأشياء والموجودات المحدودة، فيمكن أن يكون هو الأوّل ولا يكون الآخر، والظاهر ولا يكون باطن، ولكن التفكير الدقيق في ذات الله وصفاته يوصلنا إلى إمكانية انطباق معاني هذه الألفاظ عليه، فهوالأوّل في نفس الوقت الذي هو الآخر، وهو الباطن في نفس الوقت الذي يكون فيه هو الظاهر أيضاً. وعلينا أن نعترف هنا بأنّ المهم في معرفة أوصافه الجمالية والجلالية هو أن ننتبه إلى حقيقة: (ليس كمثله شيء). يشير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) إلى هذه الحقيقة بوضوح فيقول: "ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا إيّاه عنى من شبهه، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه"(8). وفي مكان آخر يقول (ع): "كل مسمّى بالوحدة غير قليل"(9). خلاصة القول: يجب ولوج البحث في صفات الخالق على ضوء قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) وعلينا أن ننظر إلى ذاته المقدسة من خلال قوله تعالى: (لم يكن له كفواً أحداً) وعبارة "سبحان الله" في العبادات وغيرها تشير إلى هذه الحقيقة. 2ـ ملاحظة أدبية إنّ الكاف في جملة (ليس كمثله شيء) للتشبيه، وتعني المثل أيضاً. لذا فإنّ هذا التكرار أصبح سبباً لأن يعتبر الكثير من المفسّرين أنّها زائدة، وأنّها جاءت للتأكيد. وأمثال ذلك كثير في الكلمات الفصحى. ولكن ثمّة تفسير أجمل، وهو أن يقال أحياناً: مثلك لا يهرب من ساحة الأحداث. أيّ أنّ الذي يملك الشجاعة والعقل والذكاء مثلك، لا ينبغي عليه الهرب (والخلاصة أن من يملك مثل صفاتك يجب أن يكون هكذا وهكذا). وفي الآية التي نبحثهاسيكون المعنى هكذا: مثل الخالق الذي ذكرنا أوصافه - كالعلم الواسع والقدرة العظيمة اللامتناهية ليس له مثل". ذهب أرباب اللغة وعلماؤها إلى إنّ هناك بعض المصطلحات لها نفس معنى (مثل) إلاّ أنّها ليست مثلها فى المفهوم من زاوية عموميتها وشموليتها، مثلا: "ند" على وزن "ضد" وتقال عندما يكون القصد من التشبيه الإشارة إلى المشابهة في الجوهر والماهية. "شبه" وتقال عندما يكون الكلام عن الكيفية فقط. "مساوي" وتقال عندما يكون الكلام عن الكمية فقط. "شكل" وتقال عندما يكون الكلام في التشبيه عن المقدار والمساحة. إلاّ أنّ "مثل" لها مفهوم أوسع وأكثر عمومية، بحيث تشمل جميع المفاهيم الآنفة الذكر. لذا فإنّ الله عندما يريد أن ينفي عن ذاته أي شبيه أو نظير يقول: (ليس كمثله شيء)(10). 3 - بعض الملاحظات حول الرزق الإلهي: أ: معيار بسط الرزق وتقديره: يجب أن لا نتصوّر أبداً أن بسط الرزق يعني محبة الله لنا، أو أن تضييق المعيشة هي دليل غضبه، لأنّ الله قد يختبر الإنسان بواسطة البسط في رزقه، وأحياناً يريد أن يمتحن صبره ومقاومته عن طريق التضييق بالمعيشة عليه. وعن هذا الطريق يصار إلى تربية الإنسان. إنّ الثروة الكبيرة قد تكون أحياناً سبباً لعذاب أهلها وتعبهم وسلب استقرارهم وراحتهم النفسية، حيث يقول القرآن في الآية (55) من سورة التوبة: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنّما يريد اللهُ ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون). وفي الآيتين (55 - 56) من سورة المؤمنين، نقرأ قوله تعالى: (أيحسبون إنّما نمدّهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون). ب: تحديد الأرزاق لا يتعارض مع بذل الجهود: إنّ الآيات التي تتحدث عن تحديد مقدار الرزق لا تتنافى مع سعي الإنسان في مجال تحصيله للرزق. وينبغي أن لا يكون الأمر مبعثأ للخمول والكسل والهروب من تحمل مسؤوليات الجهاد الفردي الإجتماعي، إذ هناك آيات قرآنية كثيرة تؤّكد أهمية وقيمة السعي الإنساني. إنّ الهدف هو أن ندرك أنّنا رغم سعينا وعملنا فهناك يد خفية تقوم أحياناً بحجب نتائج هذه الجهود، وتقوم في بعض الأحيان بعكس ذلك، حتى لا ينسى الناس في حياتهم الإجتماعية الطويلة أن ثمّة قدرة اُخرى هي قدرة مسبب الأسباب وهي التي تدبر شؤون العالم. وينبغي هنا أن لا نلقي تبعات الكسل والإهمال والتقاعس على مفهوم الرزق الإلهي المحدود لكل إنسان، لأنّه تعالى صرّح بأن عطاء الرزق يساوي ما يبذله الفرد من جهد وعناء. ج:عدم اقتصار الرزق على المفهوم المادي: للرزق معنى واسع بحيث يشمل الرزق المعنوي، بل إنّ الرزق الأصلي هو الرزق المعنوي، وفي الأدعية نلتقي مع أمثلة كثيرة تؤّكد ذلك، فنقول حول الحج مثلا: "اللهم ارزقني حج بيتك الحرام". وفي أدعية طلب الطاعة تقول: "اللهم ارزقني توفيق الطاعة وبعد المعصية". وفي أدعية أيام شهر رمضان نقول: "اللهم ارزقني فيه طاعة الخاشعين" (دعاء اليوم الخامس عشر). وهكذا بالنسبة للهبات المعنوية الأُخرى. د: القرآن والأسباب التي تؤدي إلى زيادة الرزق: لقد ذكر القرآن الكريم بعض الأمور التي تعتبر بحدِّ ذاتها درساً لتربية الإنسان وبنائه، ففي الآية "7" من سورة "إبراهيم" نقرأ قوله تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم). وفي الآية "15" من سورة "الملك" قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه). وفي سورة الأعراف، آية "96" قوله تعالى: (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض). هـ: التضييق في الرزق والقضية التربوية: أحياناً يكون ضيق الرزق لمنع الناس عن الطغيان، كما نقرأ في قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض)(11). ز: الرّزاق هو اللّه يؤكّد القرآن الكريم أنّ الذي يعطي الرزق للناس هو الله، وعليهم أن لا يطلبوا من غيره، وعليهم بعد الإيمان والتوكل أن يعتمدوا على وسعهم وطاقاتهم، كما ورد في الآية (الثالثة) من سورة "فاطر" في قوله تعالى: (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض). والآية "17" من "العنكبوت" في قوله تعالى: (فابتغوا عند الله الرزق). وهكذا تقطع التربية القرآنية روح الحاجة لدى الانسان إلى عباد مثله، وتجعله مرتبطاً بخالقه وبارئه ورازقه، فتنمي فيه روح الإباء، والعبودية والإنقطاع إلى الله. ولدينا بحث مفصل بخصوص الأرزاق والسعي للحياة، وأسباب الرزق ومصادره في نهاية تفسير الآية "71" من سورة "النحل" وكذلك في نهاية تفسير الآية "6" من سورة "هود"، فليراجع هناك. ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ أي بين لكم من الدين ما اشترك فيه نوح ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ومن بينهما من أهل الشرائع المفسر بقوله ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ أي أصوله من التوحيد والنبوة والمعاد ﴿وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ﴾ عظم ﴿عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ من التوحيد ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ﴾ إلى دينه ﴿مَن يَشَاء﴾ توفيقه له ﴿ويهدي﴾ بالتوفيق ﴿إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ يقبل إليه.