وقد أجابت الآية الأُخرى على هذا السؤال وذكرت أساس الإختلافات الدينية بأنّه: (وما تفرقوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم)، فالإختلافات لم تحدث إلاّ بسبب حب الدنيا والمنصب والظلم والحسد والعداوة.
نعم، فعبيد الدنيا الظلمة والحسودون الحاقدون وقفوا حيال أديان الأنبياء جميعاً، ودفعوا كلّ مجموعة باتجاه معين كيما يثبتوا أركان زعامتهم ويؤمّنوا مصالحهم الدنيوية، ويكشفوا - علانيةً - حسدهم وعداوتهم للمؤمنين الحقيقيين دين الأنبياء، ولكن كلّ هذا حصل بعد إتمام الحجة.
وبهذا الترتيب فإنّ أساس التفرق في الدين لم يكن الجهل، بل كان الظلم والبغي والإنحراف عن الحق، والأهواء والآراء الشخصية.
"فالعلماء الذين يطلبون الدنيا" و "والحاقدون من الناس والمتعصبون" اتحدوا معاً لزرع هذه الإختلافات.
وتعتبر هذه الآية ردّاً واضحاً على الذين يقولون بأن الدين أوجد الإختلاف بين البشر، وأدى ألى إراقة دماء كثيرة على مدى التاريخ، فلو دققوا في الأمر لوجدوا أن الدين دائماً هو أساس للوحدة والإتحاد في المجتمع (كما حصل للإسلام وقبائل الحجاز وحتى الأقوام في خارج الجزيرة حيث انتهت الإختلافات وأصبحوا أُمة واحدة).
إلاّ أن السياسات الإستعمارية هي التي أوجدت الفرقة بين الناس، وحرضت على الإختلافات، وكانت أساساً لإراقة الدماء، ففرض سياساتها وأهوائها على الأديان السماوية كان عاملا كبيراً آخر في إيجاد الفرقة، وهذا بحد ذاته ينبع من (البغي) أيضاً.
"البغي" كما يكشف أساسه اللغوي، يعني (طلب التجاوز والإنحراف عن خط الوسط والميل نحو الإفراط أو التفريط) سواء تمّ تطبيق هذا الطلب أم لا، وتختلف كميته وكيفيته، ولهذا السبب فغالباً ما يستخدم بمعنى الظلم.
وأحياناً يقال لأي طلب بالرغم من كونه أمراً جيداً ومرغوباً.
لذا فإنّ الراغب في مفرداته يقسم (البغي) إلى نوعين: (ممدوح) و (مذموم) فالأوّل يتجاوز حد العدالة ويصل إلى الإحسان والإيثار، وتجاوز الواجبات والوصول إلى المستحبات، والثّاني يتجاوز الحق نحو الباطل.
ثم يضيف القرآن الكريم: (ولولا كلمة سبقت من ربّك إلى أجل مسمى لقضي بينهم) حيث يهلك أتباع الباطل وينصر أتباع الحق.
نعم، فالدنيا هي محل الإختبار والتربية والتكامل، ولا يحصل هذا بدون حرية العمل، وهذا هو الأمر التكويني الإلهي الذى كان موجوداً منذ بدء خلق الإنسان ولا يقبل التغيير. إن هذه هي طبيعة الحياة الدنيوية، ولكن ما يمتاز به عالم الآخرة هو أن جميع هذه الإختلافات ستنتهي وسوف تصل الإنسانية إلى الوحدة الكاملة، ولهذا السبب يتمّ استخدام عبارة (يوم الفصل) للقيامة.
أمّا آخر جملة فتقوم بتوضيح حال الأشخاص الذين جاؤوا بعد هذه المجموعة، أي الذين لم يدركوا عصر الرسل، بل جاؤا في فترة طبع فيها المنافقون والمفرقون المجتمع البشري بطابعهم الشيطاني، لذا لم يسطيعوا إدراك الحق بشكل جيد، حيث تقول: (وإن الذين اورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب)(5).
وقد ذكروا في حقيقة معنى كلمة (ريب) أن هذه الكلمة تطلق على الشك الذي يتبدل إلى الحقيقة أخيراً بعد أن يزال الستار عنه، وقد يكون هذا الأمر إشارة إلى ظهور نبيّ الإسلام (ص) بالأدلة الواضحة، حيث محى آثار الشك والريب من قلوب طلاّب الحق.
ملاحظة
نقل تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق(ع) في قول الله تعالى: (أن أقيموا الدين) قال الأمام، (ولا تتفرقوا فيه) كناية عن أمير المؤمنين الإمام علي (ع) ثمّ قال:(كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) من أمر ولاية علي (الله يجتبي إليه من يشاء)كناية عن علي(ع)(6).
وبديهي أنّ المقصود ليس تحديد الدين في ولاية علي عليه أفضل الصلاة والسلام، بل الهدف هو بيان هذه الحقيقة، وهي أنّ قضية ولاية أمير المؤمنين الإمام علي(ع) تعتبر من أركان الدين أيضاً.
﴿وَمَا تَفَرَّقُوا وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ﴾ أي أهل الكتاب أو أهل الأوثان ﴿إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ﴾ بصحة نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو بالتوحيد ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ حسدا وعداوة ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾ بتأخيره الجزاء ﴿إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ هو القيامة ﴿لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ بإهلاك المبطلين ﴿وإن الذين أورثوا الكتاب﴾ وهم العرب أورثوا القرآن أو أهل الكتاب المعاصرون له (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿مِن بَعْدِهِمْ﴾ من بعد أهل الكتاب ﴿لفي شك منه﴾ من القرآن أو كتابهم لا يعلمونه كما هو ﴿مُرِيبٍ﴾ موقع الريبة.