التّفسير
المؤمنون لا يستسلمون للظلم:
هذه الآيات استمرار للبحث الوارد في الآيات السابقة بخصوص الأجر الإلهي للمؤمنين المتوكلين.
فبعد ذكر الإيمان والتوكل اللذين لهما طبيعة قلبية، تشير هذه الآيات إلى سبعة أنواع من البرامج العملية للصفتين السابقتين سواء كانت إيجابية أو سلبية، فردية أو إجتماعية، مادية أو معنوية، وهذه البرامج توضح أسس المجتمع الصالح والحكومة الصالحة القوية.
والملفت للنظر أنّ هذه الآيات نزلت في مكّة - كما يظهر - وفي ذلك اليوم لم يكن قد تأسس المجتمع الإسلامي بعد، ولم يكن هناك وجود للحكومة الإسلامية، إلاّ أن هذه الآيات أعطت التفكير الإسلامي الصحيح في هذا الخصوص منذ ذلك اليوم، حيث كان الرّسول الكريم(ص) يعلّمهم ويربّيهم لغرض الإستعداد لبناء المجتمع الإسلامي في المستقبل.
فأوّل صفة تبدأ من التطهير حيث تقول الآية أن الثواب الإلهي العظيم سوف يكون من نصيب المؤمنين المتوكلين: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش)(1).
"كبائر" جمع "كبيرة" وتعني الذنوب الكبيرة، أمّا ما هو المعيار في الكبائر؟ البعض فسّرها بالذنوب التي توعد القرآن في آياته بعذاب النّار لها، وأحياناً الذنوب التي تستوجب الحدّ الشرعي.
وقد احتمل البعض أنّها إشارة للبدع وإيجاد الشبهات الإعتقادية في أذهان الناس.
ولكننا لو رجعنا إلى المعنى اللغوي كلمة "كبيرة" فإنّها تعني الذنب الذي يكون كبيراً ومهماً من وجهة نظر الإسلام، وأحد علائم أهميته أنّه ورد في القرآن المجيد وتوعد بالعذاب عليه، وقد ورد تفسير للكبائر في روايات أهل البيت(عليهم السلام)بأنّها: "التي أوجب الله عزّوجلّ عليها النّار"(2).
وعلى هذا الأساس فلو توضحت أهمية وعظمة الذنب بطرق اُخرى، عندها سيشمله عنوان (الكبائر).
"فواحش" جمع "فاحشة" وتعني الأعمال القبيحة للغاية والممقوتة، وذكر هذه العبارة بعد كلمة (الكبائر) من قبيل ذكر الخاص بعد العام، وفي الحقيقة فإنّ التأكيد على الذنوب القبيحة للغاية بعد ذكر اجتناب المؤمنين الحقيقيين عن جميع الذنوب الكبائر، للتأكيد على أهمية ذلك.
وعلى هذا الأساس فإنّ أوّل علائم الإيمان والتوكل هو الإجتناب عن (الكبائر)، فكيف يمكن للإنسان أن يدعي الإيمان والتوكل على الخالق، في حين أنّه مصاب بأنواع الذنوب وقلبه وكر من أوكار الشيطان؟!
أمّا ثاني صفة، والتي لها طبيعة تطهيرية أيضاً، فهي السيطرة على النفس عند الغضب الذي يعتبر من أشدّ حالات الإنسان حيث تقول الآية: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون).
فهؤلاء لا يفقدون السيطرة على أنفسهم عند الغضب ولا يرتكبون الجرائم عنده، والأكثر من ذلك غسل قلوبهم وقلوب الآخرين من الحقد بواسطة مياه العفو والغفران.
وهذه الصفة لا تتوفر إلاّ في ظل الإيمان الحقيقي والتوكل على الحق.
والطريف في الأمر أن الآية لا تقول: إنّهم لا يغضبون، لأنّ الغضب من طبيعة الإنسان، وهناك ضرورة له في بعض الأحيان خاصةً عندما يكون لله وفي طريق إحقاق الحق، بل تقول: إنّهم لا يلوثون أنفسهم بالذنب عند الغضب، وبكل بساطة يعفون ويغفرون، ويجب أن يكونوا هكذا، فكيف يمكن للإنسان أن ينتظر العفو الإلهي في حين أن أعماقه مليئة بالحقد وحب الإنتقام، ولا يعترف بأي قانون عند الغضب؟ وإذا شاهدنا التأكيد على الغضب هنا، فذلك لأنّ هذه الحالة كالنار الحارقة التي تلتهب في داخل أعماق الإنسان، وهناك الكثيرون الذين لا يستطيعون ضبط أنفسهم في تلك الحالة، إلاّ أن المؤمنين الحقيقيين لا يستسلمون أبداً للغضب.
وورد في حديث عن الإمام الباقر(ع): "من ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب، وإذا غضب، حرم الله جسده على النّار"(3).
﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾.