عندئذ يندم الكفار الذين عارضوا الرّسول وعصوه، أي عندما رأوا بأُمّ أعينهم تلك المحكمة الإِلهية العادلة، وواجهوا الشهود الذين لا يمكن إِنكار شهاداتهم، إِنهم يندمون ندماً بالغاً لدرجة أنّهم يتمنون لو أنّهم كانوا تراباً أو سووا بالأرض كما يقول القرآن الكريم في الآية الثانية من الآيتين الحاضرتين إِذ يقول سبحانه: (يومئذ يودُّ الذين كفروا وعصوا الرّسول لو تسوى بهم الأرض).
وقد ورد مثل هذا التعبير في آخر سورة النبأ إِذ يقول تعالى: (ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً).
ولكن لفظة (لو تسوى) تشير إِلى مطلب آخر أيضاً، وهو: إِنّ الكفار مضافاً إِلى أنّهم يتمنون أن يصيروا تراباً، يحبّون أن تضيع معالم قبورهم في الأرض أيضاً وتسوى بالأرض حتى ينسوا بالمرّة، ولا يبقى لهم ذكر ولا خبر ولا أثر.
إِنّهم في هذه الحالة لا يمكنهم أن ينكروا أية حقيقة واقعة ولا أن يكتموا شيئاً: (ولا يكتمون الله حديثاً) لأنّه لا سبيل إِلى الإِنكار أو الكتمان مع كل تلكم الشهود.
نعم، لا ينافي هذا الكلام ما جاء في الآيات الأُخر التي تقول: هناك من الكفار من يكتم الحقائق يوم القيامة أيضاً ويكذبون(3) لأنّ كذبهم وكتمانهم واقع قبل إِقامة الشهود وقيام الشهادة، وأمّا بعد ذلك فلا مجال لأي كتمان، ولا سبيل إِلى أي إِنكار، بل لابدّ من الإِعتراف بجميع الحقائق.
وقد روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في بعض خطبه أنّه قال عن يوم القيامة "ختم على الأفواه فلا تكلم وتكلمت الأيدي وشهدت الأرجل ونطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثاً".(4)
هذا ويحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من (لا يكتمون الله حديثاً)أنّهم يتمنون لو أنّهم لم يكتموا في الدنيا أية حقيقة، خصوصاً في ما يتعلق برسول الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعلى هذا تكون هذه العبارة عطفاً على جملة (لو تسوى بهم الأرض).
ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر "لا يكتمون" الذي هو فعل مضارع، ولو كان المراد ما ذكره هذا الفريق من المفسرين لوجب أن يقول: "لم يكتموا".
﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ﴾ يتمنى ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ﴾ لو مصدرية أي أن يدفنوا فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى أو لم يبعثوا أو لم يخلقوا وكانوا هم والأرض سواء ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا﴾ لا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم، وقيل الواو للحال أي يودون أن يدفنوا تحت الأرض وأنهم لا يكتمون الله حديثا ولا يقولون والله ربنا ما كنا مشركين فإنهم إذا قالوا ذلك ختم على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيشتد الأمر عليهم فيتمنون لو تسوى بهم الأرض وقرىء تسوى بفتح التاء أي تتسوى فأدغم التاء في السين، وقرىء بحذف التاء الثانية.