ثمّ تنقل كلام هؤلاء الذين تشبثوا بدليل واه لإثبات مدعاهم، إذا قالوا: (فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين).
قال البعض: إنّ هذا كان كلام أبي جهل، حيث أنّه التفت إلى النّبي (ص) وقال: إن كنت صادقاً فابعث جدك قصي بن كلاب، فإنّه كان رجلاً صادقاً لنسأله عمّا يكون بعد الموت (3).
من البديهي أنّ كلّ ذلك كان تذرعاً، ومع أنّ سنّة الله لم تقم على أن يحيي الأموات في هذه الدنيا ليأتوا بأخبار ذلك العالم إلى هذا العالم، لكن على فرض أن يتمّ هذا العمل من قبل الرّسول الأعظم (ص)، فسيعزف هؤلاء المتذرعون نغمة جديدة، ويضربون على وتر آخر، فيسمون ذلك الفعل سحراً مثلاً، كما طلبوا المعاجز عدّة مرات، فلما أتاهم النّبي (ص) بها أنكروها أشد إنكار.
ملاحظة
عقيدة المشركين في المعاد:
لم يكن للمشركين بعامة - ومشركي العرب بخاصة - مسلك متحد في مسائلهم العقائدية، بل إنّهم كانوا متفاوتين فيما بينهم مع أنّهم يشتركون في الأصل في عقيدة الشرك.
فبعضهم لم يكن يعترف بالله ولا بالمعاد، وهم الذين يتحدث القرآن عنهم بأنّهم كانوا يقولون: (ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر) (4)
وبعضهم الآخر كانوا يعتقدون بالله عزّوجلّ، ويعتقدون أيضاً أنّ الأصنام شفعاؤهم عند الله، إلاّ أنّهم كانوا ينكرون المعاد، وهم الذين كانوا يقولون: (من يحيي العظام وهي رميم) (5)، فأُولئك كانوا يحجون إلى الأصنام، ويقدمون القرابين لها، وكانوا يعتقدون بالحلال والحرام، وكان أكثر مشركي العرب من هذه الفئة.
لكن هناك شواهد تدل على أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون ببقاء الروح بشكل ما، سواء على هيئة التناسخ وانتقال الأرواح إلى الأبدان جديدة أم بشكل آخر (6).
واعتقادهم بطير اسمه (هامة) معروف، فقد ورد في قصص العرب أنّه كان من بين العرب من يعتقد بأنّ روح الإنسان طائر انبسط في جسمه، وعندما يرحل الإنسان عن هذه الدنيا أو يقتل، يخرج هذا الطائر من جسمه ويدور حول جسده بصورة مرعبة، وينوح عند قبره.
وكانوا يعتقدون - أيضاً - أنّ هذا الطائر يكون صغيراً في البداية ثمّ يكبر حتى يصبح بحجم البوم، وهو يعيش دائماً في خوف واضطراب، ويسكن الديار الخالية، والخرائب، والقبور ومصارع القتلى!
وكذلك كانوا يعتقدون أنّ شخصاً إذا قتل ستصيح هامة على قبره: اسقوني فإني صدية أي عطشانة (7).
لقد أبطل الإسلام كلّ هذه المعتقدات الخرافية، ولذلك روي عن النّبي (ص) أنّه قال: "لا هامة" (8).
وعلى أية حال، فيبدو أنّ هؤلاء وإن لم يكونوا يعتقدون بالمعاد وحياة الإنسان بعد موته، إلاّ أنّهم كانوا يقولون بالتناسخ وبقاء الأرواح بشكل ما.
أمّا المعاد الجسماني على الهيئة التي يذكرها القرآن الكريم، بأنّ تراب الإنسان يجمع مرة أخرى، ويعود إلى الحياة من جديد، وأن لكلا الجسم والروح معاداً مشتركاً، فإنّهم كانوا ينكرونه تماماً، ولا ينكرونه فحسب، بل كانوا يخافونه.
وقد أوضحه لهم القرآن بأساليب مختلفة وأثبته لهم.
﴿فَأْتُوا﴾ أيها النبي والمؤمنون ﴿بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ في وعدكم بالبعث.