ثمّ تطرقت الآية التالية إلى ذكر قانون أخلاقي يحدد كيفية التعامل مع الكفار لتكمل أبحاثها المنطقية السابقة عن هذا الطريق، فحولت الخطاب إلى النّبي (ص) وقالت: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيّام الله).
فمن الممكن أن تكون معاملة هؤلاء قاسية، وتعبيراتهم خشنة غير مؤدبة، وألفاظهم بذيئة، وذلك لبعدهم عن مبادئ الإيمان وأسس التربية الإلهية، غير أنّ عليكم أن تقابلوهم بكلّ رحابة صدر لئلا يصروا على كفرهم ويزيدوا في تعصبهم، فتبعد المسافة بينهم وبين الحق.
إنّ حسن الخلق والصفح ورحابة الصدر يقلل من ضغوط هؤلاء وعدائهم من جهة، كما أنّه يمكن أن يكون عاملاً لجذبهم إلى الإيمان وإقبالهم عليه.
وقد ورد نظير هذا الأمر الأخلاقي كثيراً في القرآن الكريم كقوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) (2)
إنّ التصلب في التعامل مع الجاهلين والإصرار على عقوبتهم لا يثمر في العادة، بل إن تجاهلهم والإعتزاز بالنفس أمامهم هو الأُسلوب الناجح في إيقاظهم، وهو عامل مؤثر في هدايتهم.
وليس هذا قانوناً عاماً بالطبع، إذ لا يمكن إنكار وجود حالات لا يمكن معالجتها ومواجهتها إلاّ بالغلظة والشدّة، غير أنّها قليلة.
والنكتة الأُخرى هنا أنّ كلّ الأيّام هي أيّام الله، إلاّ أنّ (أيّام الله) قد أُطلقت على أيّام خاصّة، للدلالة على عظمتها وأهميتها.
لقد ورد هذا التعبير في موضعين من القرآن المجيد: أحدهما في هذه الآية، والآخر في سورة إبراهيم، وله هناك معنىً أوسع وأشمل.
وقد فسّرت "أيّام" في الرّوايات الإسلامية بتفاسير مختلفة، ومن جملتها ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم بأنّ أيّام الله ثلاثة: يوم قيام المهدي، ويوم الموت، ويوم القيامة (3).
ونقرأ في حديث آخر عن النّبي الأكرم (ص): "أيام الله نعماؤه وبلاؤه ببلائه" (4).
وعلى أية حال، فإنّ هذا التعبير يبين أهمية يوم القيامة، يوم تجلي حاكمية الله
تعالى على كلّ فرد، وعلى كلّ شيء، وهو يوم العدل والقانون والمحكمة الكبرى.
لكن، ومن أجل أنّ لا يستغل مثل هؤلاء الأفراد هذا الصفح الجميل والعفو والتسامي، فقد أضافت الآية: (ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون).
لقد اعتبر بعض المفسّرين هذه الجملة تهديداً للكفار والمجرمين، في حين أنّ البعض الآخر اعتبرها بشارة للمؤمنين لهذا العفو والصفح.
لكن لا مانع من أن تكون تهديداً لتلك الفئة من جانب، وبشارة لهذه الجماعة من جانب آخر، كما أشير إلى هذا المعنى في الآية التالية أيضاً.
﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ﴾ لا يتوقعون وقائعه بأعدائه أو لا يخافونها أي لا تكافئهم على أذاهم ﴿لِيَجْزِيَ قَوْمًا﴾ هم المؤمنون أو الكفار ﴿بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ من المغفرة أو الإساءة أو كليهما.