التّفسير
ليسوا سواءً محياهم ومماتهم:
متابعة للآيات السابقة التي كان الكلام فيها يدور حول فئتين هما: المؤمنون والكافرون، أو المتقون والمجرمون، فإنّ أولى هذه الآيات قد جمعتهما في مقارنة أصولية بينهما، فقالت: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أنّ نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون).
هل يمكن أن يتساوى النور والظلمة، والعلم والجهل، والحسن والقبيح، والإيمان والكفر؟
هل يمكن أن تكون نتيجة هذه الأُمور غير المتساوية متساوية؟
كلا، فإنّ الأمر ليس كذلك، إذ المؤمنون ذوو الأعمال الصالحات يختلفون عن المجرمين الكافرين، ويفترقون عنهم في كلّ شيء، إذ أنّ كلا من الإيمان والكفر، والعمل الصالح والطالح، يصبغ كلَّ الحياة بلونه.
وهذه الآية نظير الآية (28) من سورة ص، حيث تقول: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) ؟
أو كالآيتين 35، 36، من سورة القلم حيث: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون) ؟
"اجترحوا" في الأصل من الجرح الذي يصيب بدن الإنسان أثر مرض ضرر، ولما كان ارتكاب الذنب والمعصية كأنّما يجرح روح المذنب، فقد استعملت كلمة الإجتراح بمعنى ارتكاب الذنب، وتستعمل أحياناً بمعنى أوسع يدخل فيه كلّ اكتساب.
وإنّما يقال لأعضاء البدن: جوارح، لأنّ الإنسان يحقق مقاصده ورغباته بواسطتها، ويحصل على ما يريد، ويكتسب ما يشاء بواسطتها.
وعلى أية حال، فإنّ الآية تقول: إنّه لظن خاطئ أن يتصوروا أنّ الإيمان والعمل الصالح، أو الكفر والمعصية، لا يترك أثره في حياة الإنسان، فإنّ حياة هذين الفريقين ومماتهم يتفاوتان تماماً:
فالمؤمنون يتمتعون باطمئنان خاص في ظل الإيمان والعمل الصالح، بحيث لا تؤثر في نفوسهم أصعب الحوادث وأقساها، في حين أنّ الكافرين والملوثين بالمعصية والذنوب مضطربون دائماً، فإنّ كانوا في نعمة فهم معذبون دائماً من خوف زوالها وفقدانها، وإن كانوا في مصيبة وشدَّة فلا طاقة لهم على تحملها ومواجهتها.
وتصور الآية (82) من سورة الأنعام حال المؤمنين، فتقول: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
إنّ المؤمنين مطمئنون بمواعيد الله سبحانه، وهم يرتعون في رحمته ولطفه: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).
فنور الهداية يضيء قلوب الفريق الأوّل لتشرق بنور ربّها، فيسيرون بخطى ثابتة نحو هدفهم المقدس: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) (1).
أمّا الفريق الثّاني، فليس لديهم هدف واضح يطمحون إلى بلوغه، ولا هدى بيّن يسيرون في ظله، بل هم سكارى تتقاذفهم أمواج الحيرة في بحر الضلالة والكفر: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات).
هذا في الحياة الدنيا، أما عند الموت الذي هو نافذة تطل على عالم البقاء، وباب للآخرة، فإنّ الحال كما تصوره الآية (32) من سورة النحل حيث تقول: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون).
أمّا المجرمون الكافرون، فإنّ الآيتين (28 - 29) من سورة النحل تتحدثان معهم بأسلوب آخر، فتقولان: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إنّ الله عليم بما كنتم تعملون.
فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين).
وخلاصة القول، فإنّ التفاوت والإختلاف موجود بين هاتين الفئتين في كافة شؤون الحياة والموت، وفي عالم البرزخ والقيامة (2).
﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا﴾ اكتسبوا ﴿السَّيِّئَاتِ﴾ الكفر والمعاصي ﴿أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾ بئس حكما حكمهم هذا.