وتجسّد الآية التالية مشهد القيامة بتعبير بليغ مؤثر جدّاً، فتقول: (وترى كلّ أمة جاثية).
يستفاد من بعض كلمات المفسّرين أنّ أصحاب الدعوى في الماضي كانوا يجلسون على هذه الهيئة في مجلس القضاء ليميزوا عن الآخرين، وسيجثو الجميع يوم القيامة في تلك المحكمة الكبرى لتتم محاكمتهم.
ويمكن أيضاً أن يكون هذا التعبير علامة على استعدادهم لتقبل أي أمر أو حكم يصدر بحقّهم، لأنّ من كان على أهبة الإستعداد يجثو على الركب.
أو أنّه إشارة إلى ضعف هؤلاء وعجزهم وخوفهم واضطرابهم الذي سيعانونه.
وجمع كلّ هذه المعاني في مفهوم الآية ممكن أيضاً.
وللجاثية معان أُخرى، من جملتها الجمع الكثير المتراكم، أو جماعة جماعة، ويمكن أن تكون إشارة إلى تراكم البشر وازدحامهم في محكمة العدل الإلهي، أو جلوس كلّ أمة وفئة على حدة وبمعزل عن الأُمم الأُخرى.
إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب والأشهر.
ثمّ تبيّن الآية ثاني مشاهد القيامة، فتقول: (كل أُمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون) فإنّ هذا الكتاب صحيفة أعمال سجلت فيها كلّ الحسنات والسيئات، والقبائح والأفعال الجميلة، وأقوال الإنسان وأعماله، وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم: (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها) (1).
وتعبير (كل أُمة تدعى إلى كتابها) يوحي بأنّ لكلّ أُمة كتاباً يتعلق بأفرادها جميعاً، إضافة إلى صحيفة الأعمال الخاصّة بكلّ فرد، ولا يبدو هذا الأمر عجيباً إذا علمنا أنّ للإنسان نوعين من الأعمال: الأعمال الفردية، والأعمال الجماعية، ولذلك فإن وجود نوعين من صحائف الأعمال يبدو طبيعياً جدّاً من هذه الناحية (2).
والتعبير بـ "تدعى" يوحي بأنّ هؤلاء يدعون إلى قراءة ما في كتبهم، وهذا المعنى نظير ما ورد في الآية (14) من سورة الإسراء: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً).
ثمّ يأتيهم الخطاب من قبل الله مرّة أُخرى، فيقول مؤكّداً: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) فقد كنتم تفعلون كلّ ما يحلو لكم، ولم تكونوا تصدقون مطلقاً أنّ كلّ أعمالكم هذه تسجل في مكان ما، ولكن (إنّا كنّا نستنسخ ما كنتم تعملون).
"نستنسخ" من مادة "إستنساخ"، وهي في الأصل مأخوذة من النسخ، وهو إزالة الشيء بشيء آخر، فيقال مثلاً: نسخت الشمس الظل.
ثمّ استعملت في كتابة كتاب عن كتاب آخر من دون أن يمحى الكتاب الأوّل.
وهنا يبدو سؤال، وهو: إذا كان الله سبحانه قد أمر باستنساخ أعمال ابن آدم، ذلك يستلزم أن يكون هناك كتاب قبل النسخ تكتب فيه تلك الأعمال؟ ولذلك فإنّ البعض يعتقد أنّ صحائف أعمال كلّ البشر قد كتبت في اللوح المحفوظ، والملائكة الموكلون بحفظ أعمال الإنسان يستنسخونها من ذلك اللوح المحفوظ.
إلاّ أنّ هذا المعنى لا يتلاءم كثيراً مع الآية مورد البحث، بل الملائم أحد معنيين هما: إمّا أن يكون الإستنساخ هنا بمعنى أصل الكتابة - كما قاله بعض المفسّرين ـ، أو أنّ نفس أعمال الإنسان كالكتاب التكويني تنسخ عنه الملائكة الحفظة وتصوره، ولذلك فقد ورد في آيات أُخر من القرآن الكريم التعبير بالكتابة بدل الإستنساخ، كما نقرأ ذلك في الآية (12) من سورة يس: (إنّا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم) (3).
وقد ورد تفصيل أوسع حول أنواع الكتب التي تسجل فيها الأعمال - صحيفة الأعمال الشخصية، وصحيفة أعمال الأُمم، والكتاب الجامع العام لكلّ أفراد البشر - في ذيل الآية (12) من سورة يس.
﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ باركة على الركب أو مجتمعة ﴿كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا﴾ كتاب أعمالها ويقال لهم ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.