ثمّ تحولت الآيات من كتاب التدوين إلى كتاب التكوين، فتحدثت الآية عن عظمة السماوات والأرض وكونهما حقاً، فقالت: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلاّ بالحق) فلا ترى في كتاب سمائه كلمة تخالف الحق، ولا تجد في مجموع عالم خلقه شيئاً نشازاً لا ينسجم والحق، فالكل منسق منتظم، وكله مقترن بالحق.
لكن، كما أنّ لهذا الكون بداية، فإنّ له نهاية أيضاً، ولذلك تضيف الآية: (وأجل مسمى) فإذا حل الأجل ستفنى الدنيا بما فيها، ولما كان هذا العالم مقترناً بالحق ويسير ضمن منهجه، وله هدف مرجو، فمن الطبيعي أن يوجد عالم آخر تُبحث فيه الأعمال وتعلن فيه النتائج، وبناءً على هذا، فإنّ كون هذا العالم حقّاً دليل بنفسه على وجود المعاد، وإلاّ فإنّه سيكون لغواً وعبثاً لا فائدة فيه، وسيقترن حين ذلك بكثير من المظالم والمفاسد.
لكن مع أنّ القرآن حق، وخلق العالم حق أيضاً: (والذين كفروا عما أنذروا معرضون) فالآيات القرآنية تهددهم وتنذرهم بصورة متلاحقة متوالية، وتحذرهم بأن محكمة عظمى أمامهم، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ نظام الخلقة بدقته وأنظمته الخاصّة يدل بنفسه على أنّ في الأمر حساباً ونظاماً، غير أنّ هؤلاء الغافلين لم يلتفتوا لا إلى هذا ولا إلى ذاك.
كلمة "معرضون" - من الإعراض - تشير إلى أنّ هؤلاء إذا نظروا إلى آيات التكوين والتدوين فسيدركون الحقائق، إلاّ أنّهم أعرضوا بوجوههم عنها، وفروا من الحق لئلا يغير من أسلوب تقاليدهم وأهوائهم وميولهم وشهواتهم وإتباعهم لها.
﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ متلبسة بالعدل والحكمة للدلالة على وحدانيتنا وقدرتنا ﴿وَأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ لإفنائها هو يوم القيامة ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا﴾ من القيامة والجزاء ﴿مُعْرِضُونَ﴾ عن التفكر فيه.