ويضيف في الآية التالية: (قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلاّ ما يوحى إليَّ وما أنا إلاّ نذير مبين).
إنّ هذه الجمل الوجيزة الغنية المحتوى تجيب عن كثير من إشكالات المشركين، ومن جملتها أنّهم كانوا يتعجبون أحياناً - في مسألة بعثة النّبي (ص) ـ كيف يمكن أن يتصل إنسان بالله ويرتبط به؟
وأحياناً كانوا يقولون: لماذا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟
وتارة كانوا يطلبون معاجز عجيبة غريبة، وكان كلّ منهم يتمنى شيئاً.
وكانوا يظنون أنّ النّبي (ص) مستودع لعلم الغيب، فيطلبون منه أن يخبرهم بكلّ حوادث المستقبل.
وأخيراً فإنّهم كانوا يعجبون أحياناً من دعوته لنبذ الآلهة والتوجّه إلى عبادة الله وتوحيده.
وهذه الآية إشارة إجمالية إلى أجوبة جميع هذه الأسئلة، وقطع لكلّ تلك الأعذار الواهية.
يقول النّبي (ص) أنا لست أوّل نبيّ دعا إلى التوحيد، فقد جاء قبلي أنبياء كثيرون كلهم كانوا بشراً، وكانوا يلبسون الثياب ويأكلون الطعام، ولم يَدَّع أحد منهم أنّه يعلم الغيب المطلق، بل كانوا يقولون: إنّنا نعلم من أُمور الغيب ما يعلمنا الله إيّاه فقط.
ولم يستسلم أحد منهم أمام المعاجز التي كان يقترحها الناس، والتي كانت تقوم على أساس الرغبة والميول.
كل ذلك ليعلم الجميع أنّ النّبي أيضاً عبد من عباد الله، وعلمه وقدرته محدودة بما يريده الله سبحانه ويمنحه، فإنّ العلم المطلق والقدرة المطلقة لله جلَّ وعلاء وحسب.
هذه الحقائق كان يجب على الناس أن يعلموها ويدركوها، لينتهوا من إشكالاتهم الجوفاء.
كل ذلك ورد بعد البحث الذي مرّ في الآيات السابقة، حيث كانوا يرمون النبي (ص) بالسحر مرّة، وبالإفتراء أُخرى، ليُعلم أنّ منبع هذه الإتهامات ومصدرها هو تلك الأوهام التي أُجيب عنها في هذه الآية.
ومن هنا يتّضح أن مفاد هذه الآية لا يتنافى مع الآيات الأُخرى التي توحي بأنّ النّبي (ص) يعلم الغيب، كالذي ورد في سورة الفتح حول فتح مكّة ودخول المسجد الحرام - الآية 27 من سورة الفتح - أو ما ورد في شأن المسيح (ع) حيث يقول: (أنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) (3)، وأمثال ذلك، لأنّ الآية مورد البحث تنفي علم الغيب المطلق، لا مطلق علم الغيب، وبتعبير آخر، فإنّ الآية تنفي علم الغيب الإستقلالي، أمّا تلك الآيات فتتحدث عن علم الغيب الذي يُنال ببركة التعليم الإلهي.
والشاهد على هذا الكلام الآيتان (26 - 27) من سورة الجن: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول).
وقد ذكر بعض المفسّرين سبب نزول للآية مورد البحث، فقالوا: إنّ عبء المشاكل وضغطها لما زاد على أصحاب النّبي (ص) في مكّة، رأى النّبي (ص) في المنام أنّه يهاجر إلى أرض ذات نخيل وأشجار وماء كثير، فذكر ذلك لأصحابه، ففرحوا لذلك وظنّوا أنّهم سيرون فرجاً وسعة بعد أذى المشركين، فصبروا مدّة فلم يروا أثراً لذلك، فقالوا: يا رسول الله، لم نرَ ما أخبرتنا به، فمتى سنهاجر إلى تلك الأرض التي رأيتها في منامك؟ فسكتالنبي (ص) فنزلت هذه الآية: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) (4).
إلاّ أنّ سبب النّزول هذا يبدو بعيداً، لأنّ المخاطبين في هذه الآيات أعداء النّبي لا أصحابه، لكن يمكن أن يكون هذا من باب التطبيق، أي أنّه (ص) تمسّك بهذه الآية وأجاب بها أصحابه حينما طرحوا هذا السؤال.
﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ﴾ أي أول رسول بعث فأدعي ما لم يدعوا ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ في الدارين ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ للإنذار بالآيات والبينات.