لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وتشرح الآيات التالية عذابهم الأليم (تلفح وجوههم النّار) ألسنة النّار ولهيبها المحرق تضرب وجوههم كضرب السيف (وهم فيها كالحون) وهم من شدّة الألم وعذاب النّار، في عبوس واكفهرار. وكلمة "تلفح" مشتقّة من "لَفْح" على وزن "فتح" وتعني في الأصل ضربة السيف، وقد وردت هنا كناية، لأنّ لهيب النّار، أو نور الشمس المحرقة، وريح السموم، تضرب وجه الإنسان كضرب السيف. وأمّا كلمة "كالح" فإنّها مشتقّة من "كلوح" على وزن "فُعُول" بمعنى التعبيس واكفهرار الوجه. وقد فسّره عدد كبير من المفسّرين بتقلّص في جلد الوجه بحيث يبقى الثغر مفتوحاً لا يمكن إغلاقه(2). ملاحظات 1 - اليوم الذي لا يعتنى فيه بالأنساب: المفاهيم التي تسود حياة الإنسان المادّية في هذا العالم، ستتغيّر في عالم الآخرة، ومنها العلاقات الودّية، والأواصر الاُسريّة التي تحلّ مشاكل كثيرة في هذه الحياة، وأحياناً تشكّل النظام الذي يسيطر على سائر العلاقات الإجتماعية. وإذا كان الإنتساب للقبائل والاُسر في الدنيا لا يعارض الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح، فإنّه ينتفي يوم القيامة، فلا إنتساب لشخص أو طائفة أو قبيلة. وإذا كان الناس هاهنا يساعد أحدهم الآخر، ويحلّ له مشاكله وينتصر له ويفخر به، فإنّهم ليسوا كذلك يوم القيامة، فلا خبر عن الأموال الكثيرة، ولا عن الأولاد (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم)(3). حتّى مَن ينتسبون إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاضعون لهذا الحكم، ولهذا نلاحظ أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة الأطهار طردوا عنهم من كان من المقرّبين في النسب الهاشمي، إمّا لعدم إيمانه، أو لإنحرافه عن الإسلام الأصيل، وأظهروا تنفّرهم وبراءتهم منه. رغم أنّه روي عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: "كل حسب(4) ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ حسبي ونسبي"(5). يقول العلاّمة الطباطبائي (رضوان الله عليه) في الميزان: إنّ هذا الحديث هو نفسه الذي رواه بعض محدّثي أهل السنّة في كتبهم، مرّة عن عبدالله بن عمر، وأُخرى عن عمر بن الخطاب، وأحياناً عن صحابة آخرين للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). في الوقت الذي نرى أنّ الآية - موضع البحث - ذات طابع عامّ، فهي تتحدّث عن إنقطاع جميع الأنساب يوم القيامة، وهذا ما تؤازره المبادىء القرآنية وسيرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معاملة المنحرفين التي تفيد أنّه لا فرق بين الناس في هذا المجال. لهذا نقرأ في حديث رواه ابن شهر آشوب في كتابه المناقب عن طاووس اليماني عن الإمام زين العابدين (ع) أنّه قال: "خلق الله الجنّة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النّار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً"(6). وما ذكر لا ينفي إحترام السادة المتّقين من آل الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذا الإحترام في حقيقته إحترام للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما جاء في القرآن والحديث في فضلهم ومنزلتهم ناظر حسب الظاهر إلى هذا المعنى. 2 - حكاية الأصمعي المؤثّرة: ومن المناسب هنا ذكر حكاية نقلها "الغزالي" في كتابه "بحر المحبّة" عن الأصمعي، تؤيّد ما ذهبنا إليه وذات مسائل جديرة بالإهتمام. يقول الأصمعي "كنت أطوف حول الكعبة في ليلة مقمرة، فسمعت صوتاً حنوناً لرجل يناجي ربّه. بحثت عن صاحبه وإذا به شاب جميل رشيق القامة يبدو عليه الطيب. وقد تعلّق بأستار الكعبة، وكان يقول في مناجاته: ياسيّدي ومولاي، نامت العيون وغابت النجوم، وأنت ملك حيّ قيّوم، لا تأخذك سنة ولا نوم، غلقت الملوك أبوابها، وأقامت عليها حرّاسها وحجّابها، وقد خلا كلّ حبيب بحبيبه، وبابك مفتوح للسائلين، فها أنا سائلك ببابك مذنب فقير، خاطيء مسكين، جئتك أرجو رحمتك يارحيم، وأن تنظر إليّ بلطفك ياكريم! ثمّ أنشد: يامن يجيب دعا المضطر في الظلم ***** ياكاشف الكرب والبلوى مع السقم قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا ***** وعين جودك ياقيّوم لم تنم إن كان جودك لا يرجوه ذو سرف ***** فمن يجود على العاصين بالنعم هب لي بجودك فضل العفو عن سرف ***** يامن أشار إليه الخلق في الحرم ثمّ رفع رأسه إلى السّماء وناجى: إلهي سيّدي ومولاي! إن أطعتك بعلمي ومعرفتي فلك الحمد والمنّة عليّ، وإن عصيتك بجهلي فلك الحجّة عليّ. ورفع رأسه ثانيةً إلى السّماء مناجياً بأعلى صوته: ياإلهي وسيّدي ومولاي، ما طابت الدنيا إلاّ بذكرك، وما طابت العقبى إلاّ بعفوك، وما طابت الأيّام إلاّ بطاعتك، وما طابت القلوب إلاّ بمحبّتك، وما طاب النعيم إلاّ بمغفرتك. يضيف الأصمعي أنّ هذا الشاب واصل مناجاة ربّه حتّى اُغمي عليه، فدنوت منه وتأمّلت في محيّاه فإذا هو علي بن الحسين زين العابدين، فأخذت رأسه في حجري وبكيت له كثيراً، فأعادته إلى وعيه قطرات دمع سكبت على وجنتيه، فتح عينيه وقال: من الذي شغلني عن ذكر مولاي؟ قلت: إنّك من بيت النبوّة ومعدن الرسالة. ألم تنزل فيكم آية التطهير؟ ألم يقل الله فيكم: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً). نهض الإمام السجّاد وقال: ياأصمعي! هيهات هيهات! خلق الله الجنّة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النّار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً. ألم تقرأ القرآن؟ ألم تسمع كلام الله: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون). يقول الأصمعي: عندما وجدته على هذا الحال، تركته ومضيت لسبيلي(7). 3 - تناسب العقاب مع الذنب أشرنا سابقاً إلى العذاب الإلهي في القيامة، وإلى أنّ الذنوب التي ترتكب تتناسب مع العقاب بدقّة. وقد ذكرت الآيات السابقة إحتراق الوجوه الشديد بلهيب النّار المحرقة، حتّى تكون الوجوه معبّسة والثغور مفتّحة. كلّ ذلك عقاب للذين خفّت موازينهم وإنعدم إيمانهم. ومع التوجّه لهذا المعنى، وهو أنّ هؤلاء كانوا يعبّسون حين سماع الآيات الإلهيّة وأحياناً يسخرون بها. ويجلسون يتحدّثون باستهزاء وتهكّم، فإنّ هذا العذاب يناسب أعمالهم هذه. ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ تضربها فتحرقها ﴿وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ عابسون.