وتضيف آخر آية من هذه الآيات، ولتكملة ما ورد في الآيات السابقة: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين) (5).
وللمفسّرين أقوال في الشاهد من بني إسرائيل الذي شهد على كون القرآن المجيد حقّاً...
قال البعض: إنّه موسى بن عمران (ع) الذي أخبر في عصره بظهور نبيّ الإسلام، وأعطى أوصافه وعلاماته.
إلاّ أنّ هذا الإحتمال غير صحيح بملاحظة جملة: (فآمن واستكبرتم) التي توحي بأنّ هذا الشاهد من بني إسرائيل قد آمن بنبيّ الإسلام (ص) في الوقت الذي استكبر فيه المشركون ولم يؤمنوا، لأنّ ظاهر الجملة يوحي بأنّ هذا الشاهد كان موجوداً في عصر نبيّ الإسلام (ص) وآمن به، بينما اختار الآخرون طريق الإستكبار والكفر.
وقال آخرون: إنّه كان رجلاً من علماء أهل الكتاب، كان يحيا في مكّة.
ومع أنّ أنصار الدين اليهودي والمسيحي كانوا قلة في مكّة، لكن لا يعني هذا أنّ أحداً منهم لم يكن فيها، ومع ذلك فلا يعرف من كان هذا العالم من بني إسرائيل؟ وما هو اسمه؟
وهذا التّفسير باطل منهم أيضاً لأنّه لم يكن هناك عالم معروف من أهل الكتاب في مكّة في عصر ظهور النّبي (ص)، ولم تذكر التواريخ اسماً له (6).
طبعاً، يمتاز هذا التّفسير والذي قبله بأنّهما ينسجمان مع كون كلّ سورة الأحقاف مكية.
والتّفسير الثّالث الذي ارتضاه أكثر المفسّرين، هو أنّ هذا الشاهد كان "عبدالله بن سلام" عالم اليهود المعروف، الذي آمن في المدينة والتحق بصفوف المسلمين.
وقد ورد - في حديث - أنّ النّبي (ص) انطلق حتى دخل كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخوله عليهم، فقال لهم رسول الله (ص): "يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، يحط الله عن كلّ يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه" فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثمّ ردّ عليهم فلم يجبه أحد ثلاثاً، فقال: "أبيتم، فوالله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأن المقض، آمنتم أو كذبتم" ثمّ انصرف حتى كاد يخرج، فإذا رجل من خلفه، فقال: كما أنت يا محمّد فأقبل، فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟ فقالوا: والله ما نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك، فقال: فإنّي أشهد بالله إنّه النّبي الذي تجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل، قالوا: كذبت، ردوا عليه وقالوا شرّاً، فقال رسول الله (ص): "كذبتم، لن يقبل منكم قولكم" - ولم يكن هذا الرجل غير عبد الله بن سلام - فنزلت الآية: (قل أرأيتم إن كان من عند غير الله...) (7).
وطبقاً لهذا التّفسير، فإنّ هذه الآية نزلت في المدينة بالرغم من أنّ السورة مكّية، وهذا ليس منحصراً بالآية مورد البحث، بل يلاحظ - أحياناً - في سور القرآن الأُخرى وجود آيات مكية في طيات السور المدنية وبالعكس، وهذا يبيّن أنّ النبي (ص) كان يأمر بوضع الآية مع ما يناسبها من مفاد السورة من دون الإلتفات إلى تاريخ نزولها.
ويبدو من جهات عديدة أنّ هذا التّفسير هو الأنسب.
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ أخبروني ﴿إِن كَانَ﴾ أي القرآن ﴿مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ هو ابن سلام وقيل موسى وشهادته هي ما في التوراة ﴿عَلَى مِثْلِهِ﴾ مثل القرآن وهو ما في التوراة مما يطابقه أو مثل ذلك وهو كونه من عند الله ﴿فَآمَنَ﴾ أي الشاهد ﴿وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ عن الإيمان وجواب الشرط ألستم أظلم الناس بدليل ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ بكفرهم بما ثبت بالبرهان أنه من عند الله.