أمّا الآية الأخيرة من هذه الآيات فإنّها تشير أوّلاً إلى تفاوت درجات كلا الفريقين، فتقول: (ولكل درجات ممّا عملوا) (5) فليس كلّ أصحاب الجنّة أو أصحاب النّار في درجة واحدة، بل إنّ لكلّ منهما درجات ومراتب تختلف باختلاف أعمالهم، وحسب خلوص نيّتهم وميزان معرفتهم، وأصل العدالة هو الحاكم هنا تماماً.
"الدرجات" جمع درجة، وتقال عادةً للسلالم التي يصعد الإنسان بتسلقها إلى الأعلى، و"الدركات" جمع درك، وهي تقال للسلّم الذي ينزل منه الإنسان إلى الأسفل، ولذلك يقال في شأن الجنّة: درجات، وفي شأن النّار: دركات، لكن لما كانت الآية مورد البحث قد تحدثت عنهما معاً، ولأهمية مقام أصحاب الجنّة، ورد لفظ (الدرجات) للأثنين، وهو من باب التغليب (6).
ثمّ تضيف الآية: (وليوفيهم أعمالهم) وهذا التعبير إشارة أُخرى إلى مسألة تجسم الأعمال، حيث أنّ أعمال ابن آدم ستكون معه هناك، فتكون أعماله الصالحة باعثاً على الرحمة به واطمئنانه، وأعماله الطالحة سبباً للبلاء والعذاب الألم.
وتقول الآية أخيراً كتأكيد على ذلك: (وهم لا يظلمون) لأنّهم سيرون أعمالهم وجزاءها، فكيف يمكن تصور الظلم والجور؟
هذا إضافة إلى أنّ درجات هؤلاء ودركاتهم قد عيّنت بدقّة، حتى أنّ لأصغر الأعمال، حسناً كان أُم قبيحاً، أثره في مصيرهم، ومع هذه الحال لا معنى للظلم حينئذ.
ملاحظة
كيف حرّفت هذه الآية من قبل بني أمية؟
ورد في رواية أنّ "معاوية" أرسل رسالة إلى "مروان" - وإليه على المدينة - يأمره بأخذ البيعة من الناس لابنه يزيد، وكان "عبدالرحمن بن أبي بكر" حاضراً في المجلس، فقال: يريد معاوية أن يجعل هذا الأمر هرقلياً وكسروياً - ملكي الروم وفارس - إذا مات الآباء جعلوا أبناءهم مكانهم، وإن لم يكونوا أهلاً لذلك، أو كانوا فساقاً؟
فصاح مروان من على المنبر: صه، فأنت الذي نزلت فيه: (والذي قال لوالديه أُف لكما).
وكانت "عائشة" حاضرة، فقالت: كذبت، وإنّي لأعلم فيمن نزلت هذه الآية، ولو شئت لأخبرتك باسمه ونسبه، لكن رسول الله (ص) لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة رسول الله (ص) (7).
أجل... ولقد كان ذنب عبدالرحمن عشقه ومحبّته لأمير المؤمنين علي (ع)، وهو أمر كان يسوء بني أمية كثيراً، هذا من جهة.
ومن جهة أُخرى فإنّه كان مخالفاً لصيرورة الخلافة وراثية، وتبديلها إلى سلطنة، وكان يعتبر أخذ البيعة ليزيد نوعاً من الإنحراف نحو الكسروية والهرقلية، ولذلك أصبح غرضاً لأعداء الإسلام الألداء، أي آل أميّة، فحرّفوا آيات القرآن فيه.
وكم هو مناسب الجواب الذي أجابت به عائشة مروان بأنّ الله سبحانه لعن أباك إذ كنت خلفه، وهو إشارة إلى الآية (60) من سورة الإسراء حيث تقول: (والشجرة الملعونة في القرآن) (8).
﴿وَلِكُلٍّ﴾ من الجنسين ﴿دَرَجَاتٌ﴾ مراتب متصاعدة في الجنة ومتنازلة في النار ﴿مِّمَّا عَمِلُوا﴾ من جزاء ما عملوا من خير وشر ﴿وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ جزاءها ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ في الجزاء.