التّفسير
مصير المعاندين:
تعقيباً على البحث السابق في الآية المتقدمة حول أهل الكتاب، وجه الخطاب في هذه الإية إليهم أنفسهم، إِذ قال سبحانه: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدّقاً لما معكم) أي آمنوا بالقرآن الكريم الذي تجدونه موافقاً لما جاء في كتبكم من العلامات والبشائر، ولا شك أنّكم أولى من غيركم - ولديكم مثل هذه الأدلة والعلائم - بالإِيمان بهذا الدين الطاهر.
ثمّ إن الله سبحانه يهددهم بأنّ عليهم أن يخضعوا للحقّ ويذعنوا له قبل أن يُصابوا بإِحدى عقوبتين، الأُولى: أن تنمحي صورهم كاملة، وأن تذهب عنهم جوارحهم وأعضاؤهم التي يرون ويسمعون ويدركون بها الحق، كلّها ثمّ تقلب وجوههم إِلى خلف كما يقول سبحانه: (من قبل أن نطمس(1) وجوهاً فنردّها على أدبارها).
ولعلّنا لسنا بحاجة إِلى أن نذكر بأنّ المراد من هذه العبارة هو تعطل عقولهم وحواسهم من حيث عدم رؤية حقائق الحياة وإدراكها، والإِنحراف عن الصراط المستقيم كما جاء في حديث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) من أنّ المراد: "نطمسها عن الهدى فنردّها على أدبارها في ضلالتها ذمّاً لها بأنّها لا تفلح أبداً"(2).
توضيح ذلك أنّ أهل الكتاب، وبخاصّة اليهود منهم، عندما أعرضوا عن الإِذعان بالحق رغم كل تلك العلائم والبراهين، وعاندوا تعنتاً واستكباراً وأظهروا مواقفهم المعاندة في أكثر من ساحة، صار العناد والزور طبيعتهم الثانية شيئاً فشيئاً، وكأن أفكارهم قد مسخت وكأن عيونهم قد عميت وآذانهم قد صمت، ومثل هؤلاء من الطبيعي أن يتقهقروا في طريق الحياة بدل أن يتقدموا، وأن يرتدوا على الأدبار بدل أن يتحركوا إِلى الأمام، وهذا هو جزاء كل من ينكر الحق عناداً وعتواً، وهذا في الحقيقة يشبه ما أشرنا اليه في مطلع سورة البقرة الآية (رقم 6).
وعلى هذا، فإِن المراد من "الطمس وعفو الأثر والرّد على العقب" في الآية الحاضرة هو المحو الفكري والروحي، والتأخر المعنوي.
وأمّا العقوبة الثانيةالتي هددهم الله بها فهي اللعن والطرد من رحمته تعالى إِذ قال: (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت)(3).
وهنا يطرح سؤال وهو: ما الفرق بين هذين التهديدين، حتى يفصل بينهما بـ "أو"؟
ذهب بعض المفسّرين إِلى أنّ التهديد الأوّل ينطوي على جانب معنوي، والتهديد الثّاني ينطوي على جانب ظاهري ومسخ جسمي، وذلك بقرينة أن الله قال في هذه الآية: (كما لعنا أصحاب السبت) ونحن نعلم أن أصحاب السبت - كما يتّضح من مراجعة الأعراف - قد مسخوا مسخاً ظاهرياً وجسدياً.
وذهب آخرون إِلى أن هذا اللعن والطرد من رحمة الله ينطوي أيضاً على جانب معنوي بفارق واحد، هو أنّ التهديد الأوّل إِشارة إِلى الإِنحراف والضلال والتقهقر الذي أصابهم، والتهديد الثّاني إِشارة إِلى معنى الهلاك والفناء (الذي هو أحد معاني اللعن).
خلاصة القول: إنّ أهل الكتاب بإِصرارهم على مخالفة الحق يسقطون ويتقهقرون أو يهلكون.
يثمّ إِنّ هنا سؤا آخر هو: هل تحقق التهديد في شأن هؤلاء، أم لا؟
لا شك أنّ التهديد الأوّل قد تحقق في شأن كثير منهم، وأمّا التهديد الثّاني فقد تحقق في بعضهم، ولقد هلك كثير منهم في الحروب الإِسلامية، وذهبت شوكتهم وقدرتهم.
وإِنّ تأريخ العالم ليشهد كيف تعرضوا بعد ذلك لكثير من الضغوطات في البلاد المختلفة، وفقدوا الكثير من أفرادهم وعناصرهم، وخسروا الكثير من طاقاتهم، ولا يزالون إِلى الآن يعيشون في ظروف صعبة وأحوال قاسية.
ثمّ إنّ الله يختم هذه الآية بقوله: (يوكان أمر الله مفعو) ليؤكّد هذه التهديدات، فإِنّه لا توجد قوّة في الأرض تستطيع أن تقف في وجه إِرادة الله ومشيئته.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا﴾ من القرآن ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم﴾ من التوراة ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا﴾ نطمسها عن الهدى بأن نمحو تخطيط صورها أو نمحو ما فيها من العين والأنف والحاجب ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ في ضلالتها فلا يفلح أبدا أو على هيئة أدبارها وهي الأقفية أو ننكسها إلى خلف ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ نخزيهم بالمسخ ﴿كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ وهو وعيد مشروط بعدم إيمانهم أجمع فلما آمن بعضهم رفع أو يقع في الآخرة أو منتظر يقع قبل القيامة أو أريد باللعن متعارفة، وقد لعنوا بكل لسان ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ﴾ بكون شيء أو وعيده أو قضاؤه ﴿مَفْعُولاً﴾ كائنا لا بد أن يقع.