لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ويأمر الله سبحانه نبيّه في آخر آية من هذه الآيات، وهي آخر آية في سورة الأحقاف، على أساس ملاحظة ما مرّ في الآيات السابقة حول المعاد وعقاب الكافرين، أن: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) فلست الوحيد الذي واجه مخالفة هؤلاء القوم وعداوتهم، فقد واجه أولو العزم هذه المشاكل وثبتوا أمامها واستقاموا، فنبيّ الله العظيم نوح (ع) دعا قومه 950 سنة، ولم يؤمن به إلاّ فئة قليلة، وكان قومه يؤذونه دائماً، ويسخرون منه. وألقوا إبراهيم (ع) في النّار، وهددوا موسى (ع) بالقتل، وكان قلبه قد امتلأ قيحاً من عصيانهم، وكانوا يريدون قتل المسيح (ع) بعد أن آذوه كثيراً، فأنجاه الله منهم. وخلاصة القول: إنّ الأمر كان وما يزال كذلك ما كانت الدنيا، ولا يمكن التغلب على هذه المشاكل إلاّ بقوّة الصبر والإستقامة والثبات. من هم أولو العزم من الرسل؟ هناك بحث واختلاف كبير جدّاً بين المفسّرين في: مَن هم أولو العزم؟ وقبل أن نحقق في هذا، ينبغي أن نحقق في معنى (العزم)، لأنّ (أولو العزم) بمعنى ذوي العزم. "العزم" بمعنى الإرادة الصلبة القوية، ويقول الراغب في مفرداته: إنّ العزم هو عقد القلب على إمضاء الأمر. وقد استعملت كلمة العزم في مورد الصبر في آيات القرآن المجيد أحياناً، كقوله تعالى: (ولمن صبر وغفر إنّ ذلك لمن عزم الأُمور) (2). وجاءت أحياناً بمعنى الوفاء بالعهد، كقوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً) (3). لكن بملاحظة أنّ أصحاب الشرائع والأديان الجديدة من الأنبياء قد ابتلوا بمشاكل أكثر، وواجهوا مصاعب أشد، وكانوا بحاجة إلى عزم وإرادة أقوى وأشد لمواجهتها، فقد أطلق على هذه الفئة من الأنبياء (أولو العزم) والآية مورد البحث إشارة إلى هذا المعنى ظاهراً. وهي تشير ضمناً إلى أن نبيّ الإسلام (ص) من هذه الفئة، لأنّها تقول: (فاصبر كما صبر أولو العزم). وإذا كان البعض قد فسّر العزم والعزيمة بمعنى الحكم والشريعة فمن هذه الجهة، وإلاّ فإنّ كلمة العزم لم تأتِ في اللغة بمعنى الشريعة. وعلى أية حال، فطبقاً لهذا المعنى تكون (من) في (من الرسل) تبعيضية، وإشارة إلى فئة خاصّة من الأنبياء كانوا أصحاب شريعة، وهم الذين أشارت إليهم الآية 7 من سورة الأحزاب: (وإذ أخذنا من النبيّين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً). فقد أشارت الآية إلى هؤلاء الأنبياء الخمسة بعد ذكر جميع الأنبياء بصيغة الجمع، وهذا دليل على خصوصيتهم. وتتحدث الآية (13) من سورة الشورى عنهم أيضاً، فتقول: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى). وقد رويت في هذا الباب روايات كثيرة في مصادر الشيعة والسنّة، تدل على أنّ الأنبياء أولي العزم كانوا خمسة، كما ورد في حديث عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام: "ومنهم خمسة: أولهم نوح، ثمّ إبراهيم ثمّ موسى، ثمّ عيسى، ثمّ محمّد" (4). وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين (ع): "منهم خمسة أولو العزم من المرسلين: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد". وعندما يسأل الراوي: لم سموا (أولو العزم)؟يقول الإمام (ع) مجيباً: "لأنّهم بعثوا إلى شرقها وغربها، وجنّها وإنسها" (5). وكذلك ورد في حديث عن الإمام الصادق (ع): "سادة النبيّين والمرسلين خمسة، وهم أولو العزم من الرسل، وعليهم دارت الرحى: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّد" (6). وروي هذا المعنى في تفسير الدر المنثور عن ابن عباس أيضاً، بأنّ الأنبياء أولي العزم هم هؤلاء الخمسة (7). إلاّ أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ (أولو العزم) إشارة إلى الأنبياء الذين أُمروا بمحاربة الأعداء وجهادهم. واعتبر البعض عددهم 313 نفراً (8)، ويرى البعض أنّ جميع الأنبياء (أولو عزم) أي أصحاب إرادة (9) صلبة وطبقاً لهذا القول، فإنّ (من) في (من الرسل) بيانية لا تبعيضية. إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أصح منها جميعاً، وتؤيده الروايات الإسلامية. ثمّ يضيف القرآن بعد ذلك: (ولا تستعجل لهم) أي للكفار لأنّ القيامة ستحل سريعاً، وسيرون بأعينهم ما أطلقوه عليها وادعوه فيها، ويجزون أشدّ العذاب، وعندها سيطلعون على أخطائهم، ويعرفون ما كانوا عليه من الضلالة والغي. إنّ عمر الدنيا قصير جدّاً بالنسبة إلى عمر الآخرة، حتى: (كأنّهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار). إنّ هذا الإحساس بقصر عمر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة، إمّا بسبب أنّ هذه الحياة ليست إلاّ ساعة أمام تلك الحياة الخالدة حقيقة وواقعاً، أو لأنّ الدنيا تنقضي عليهم سريعاً حتى كأنّها لم تكن إلاّ ساعة، أو من جهة أنّهم لا يرون حاصل كلّ عمرهم الذي لم يستغلوه ويستفيدوا منه الإستفادة الصحيحة إلاّ ساعة لا أكثر. هنا سيغطي سيل الأحزان والحسرة قلوب هؤلاء، ولات حين ندم، إذ لا سبيل إلى الرجوع. لهذا نرى النّبي (ص) وقد سئل: كم ما بين الدنيا والآخرة؟ فقال: "غمضة عين، ثمّ يقول: قال الله تعالى: (كأنّهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار) " (10). وهذا يوحي بأنّ التعبير بالساعة لا تعني مقدار الساعة المتعارفة، بل هو إشارة إلى الزمان القليل القصير. ثمّ تضيف الآية كتحذير لكلّ البشر "بلاغ" (11) لكلّ أُولئك الذين خرجوا عن خط العبودية لله تعالى... لأولئك الغارقين في بحر الحياة الدنيا السريعة الزوال والفناء، والعابدين شهواتها... وأخيراً هو بلاغ لكلّ سكان هذا العالم الفاني. وتقول في آخر جملة تتضمن استفهاماً عميق المعنى، وينطوي على التهديد: (فهل يهلك إلاّ القوم الفاسقون) ؟ ملاحظة كان نبيّ الإسلام مثال الصبر والإستقامة: إنّ حياة أنبياء الله العظام - وخاصة نبيّ الإسلام (ص) - تبيان لمقاومتهم اللامحدودة أمام الحوادث الصعبة والشدائد العسيرة، والعواصف الهوجاء، والمشاكل القاصمة، ولما كان طريق الحق مليئاً بهذه المشاكل دائماً، فيجب على سالكيه أن يستلهموا العبر من أولئك العظماء في هذا المسير. إنّنا ننظر عادة من نقطة مضيئة في تاريخ الإسلام إلى أيّام مرّت على الإسلام ونبيّه (ص) صعبة مظلمة، وهذه النظرة من المستقبل إلى الماضي تجسم الوقائع والحقائق بشكل آخر، فينبغي علينا أن ندرك أنّ النّبي (ص) كان وحيداً فريداً لا يرى في أفق الحياة أية علامة للإنتصار. فأعداؤه شمروا عن سواعدهم للفتك به، حتى أنّ أقاربه وعشيرته كانوا في الخط الأوّل في هذه المجابهة! كان يذهب دائماً إلى قبائل العرب ويدعوهم، ولكن لم يكن يجيبه أحد. كانوا يرجمونه حتى تسيل الدماء من عقبيه، لكنه لم يكن يكف عن عمله. لقد فرضوا عليه الحصار الإجتماعي والإقتصادي والسياسي بحيث أغلقوا جميع الأبواب والطرق بوجهه وبوجه أتباعه، حتى مات بعضهم جوعاً، وأقعد المرض بعضهم الآخر. لقد مرّت على النّبي (ص) أيّام يصعب على القلم واللسان وصفها، فعندما جاء إلى الطائف ليدعو الناس إلى الإسلام، لم يكتفوا بعدم إجابة دعوته، بل رموه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه. لقد كانوا يحثون الجهلاء من الناس على أن يصرخوا، ويسيؤوا في كلامهم إليه، فيضطر إلى أن يلتجئ إلى بستان ويستظل بظل شجرة، ويناجي ربّه فيقول: "اللّهمَّ إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين: أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي..." (12). كانوا يسمونه ساحراً تارة، وأُخرى يخاطبونه بالمجنون. كانوا يلقون التراب والرماد على رأسه حيناً، وحيناً يجمعون على قتله، فيحاصرون بيته بالسيوف والرماح. إلاّ أنّه رغم كلّ تلك الظروف استمر في صبره وصموده واستقامته. وأخيراً جنى الثمرة الطيبة لهذه الشجرة المباركة، فقد عمّ دينه شرق العالم وغربه، لا جزيرة العرب وحدها، ويدوّي اليوم صوت انتصاره صباح مساء في كلّ أرجاء الدنيا، وفي قارات العالم الخمسة، وهذا هو معنى: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل). وهذا هو طريق محاربة الشياطين، وطريق الإنتصار عليهم، والوصول إلى الأهداف الإلهية السامية. إذا كان الأمر كذلك، فكيف يطمح طلاب الراحة والسلامة إلى أن يصلواإلى أهدافهم الكبيرة من دون صبر وتحمل للعذاب والآلام؟ وكيف يأمل مسلمو اليوم أن ينتصروا على كلّ هؤلاء الأعداء الذين اجتمعت كلمتهم على إفنائهم والقضاء عليهم، دون الإستلهام من دين نبي الإسلام الأصيل؟ والقادة الإسلاميون بخاصة مأمورون بهذا الأمر قبل الجميع، كما ورد في حديث عن أمير المؤمنين علي (ع): "إنّ الصبر على ولاة الأمر مفروض، لقول الله عزَّ وجلَّ لنبيّه: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه وأهل طاعته بقوله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) " (13). اللّهمَّ امنحنا هذه الموهبة العظيمة، هذه العطية السماوية، وهذا الصبر والثبات والإستقامة أمام المشاكل. اللّهمَّ وفقنا لحفظ مشعل النور الذي حمله أولو العزم من أنبيائك، وخاصة خاتم النبيين محمّد (ص)، من أجل هداية البشرية بعد تحملهم الجهود المضنية، ووفقنا لأن نكون أهلاً لحراسته. إلهنا! إنّ أعداء الحق متحدون ومتحزّبون ضده، ولا يرتدعون عن إقتراف أية جريمة وجناية، اللّهمَّ فامنحنا صبراً وثباتاً أعظم مما لديهم لئلا نركع أمام سيل المشاكل وعظمتها، ووفقنا لأن نتخطى الأمواج والعواصف ونتركها وراءنا، وهذا لا يتمّ إلاّ بعونك ولطفك اللامحدود. آمين يا ربّ العالمين نهاية سورة الأحقاف ﴿فَاصْبِرْ﴾ على أذى قومك ﴿كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ﴾ ذو الجد والثبات ﴿مِنَ الرُّسُلِ﴾ وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى فختموا بمحمد ﴿وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ لقومك العذاب فإنه مصيبهم لا محالة ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ﴾ من العذاب في الآخرة ﴿لَمْ يَلْبَثُوا﴾ في الدنيا في ظنهم ﴿إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ﴾ لهول ما عاينوا ﴿بَلَاغٌ﴾ أي هذا الذي وعظتم به كفاية أو تبليغ من الله إليكم ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الخارجون عن أمر الله