وبيّنت الآية الأخيرة العلة الأساسية لهذا الإنتصار وتلك الهزيمة من خلال مقارنة مختصرة بليغة، فقالت: (ذلك بأنّ الذين كفروا اتبعوا الباطل وأنّ الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربّهم).
هنا يكمن سرّ المسألة بأنّ خطّي الإيمان والكفر يتفرعان عن خطّي الحق والباطل، فالحق يعني الحقائق العينية، وأسماها ذات الله المقدّسة، وتليها الحقائق المتعلقة بحياة الإنسان، والقوانين الحاكمة في علاقته بالله تعالى، وفي علاقته بالآخرين.
والباطل يعني الظنون، والأوهام، والمكائد والخدع، والأساطير والخرافات، والأفعال الجوفاء التي لا هدف من ورائها، وكلّ نوع من الإنحراف عن القوانين الحاكمة في عالم الوجود.
نعم، إنّ المؤمنين يتبعون الحق وينصرونه، والكفار يتبعون الباطل ويؤازرونه، وهنا يكمن سرّ انتصار هؤلاء، وهزيمة أُولئك.
يقول القرآن الكريم: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً) (3).
وفسّر البعض "الباطل" بالشيطان، وآخرون بالعبثية، لكن كما قلنا، فإنّ للباطل معنى واسعاً يشمل هذين التّفسيرين وغيرهما.
وتضيف الآية في النهاية: (كذلك يضرب الله للناس أمثالهم) أي: كما أنّه سبحانه قد بيّن الخطوط العامّة لحياة المؤمنين والكفار، وعقائدهم وبرامجهم العملية ونتائج أعمالهم في هذه الآيات ، فإنّه يوضح مصير حياتهم وعواقب أعمالهم.
يقول الراغب في مفرداته: المثل عبارة عن قول يشبه قولاً في شيء آخر بينهما مشابهة يبيّن أحدهما الآخر.
ويستفاد من كلام آخر له أنّ هذه الكلمة تستعمل أحياناً بمعنى "المشابهة"، وأحياناً بمعنى "الوصف".
والظاهر أنّ المراد في هذه الآية هو المعنى الثاني، أي إنّ الله سبحانه يصف حال الناس هكذا، كما مثّل الجنّة في الآية (15) من سورة محمّد: (مثل الجنّة التي وعد المتقون).
وعلى أية حال، فالذي يستفاد من هذه الآية جيداً، أنّنا كلما اقتربنا من الحق اقتربنا من الإيمان، وسنكون أبعد عن حقيقة الإيمان وأقرب إلى الكفر بتلك النسبة التي تميل بها أعمالنا نحو الباطل، فإنّ أساسي الإيمان والكفر هما الحق والباطل.
﴿ذَلِكَ﴾ الإضلال والتكفير ﴿بِأَنَّ﴾ بسبب أن ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ﴾ الشيطان ﴿وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ﴾ القرآن ﴿كَذَلِكَ﴾ البيان ﴿يَضْرِبُ﴾ يبين ﴿اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ﴾ أحوالهم أو أحوال الفريقين ليعتبروا بهم.