لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير وصف آخر للجنّة: إنّ هذه الآية وصف لمصير كلّ من المؤمنين والكافرين، فالفئة الأولى الذين يعملون الصالحات، والثانية زيّن لهم سوء أعمالهم. وقد رفعت هذه الآية الغطاء عن ستة أنواع من نعم أهل النعيم، وعن نوعين من أنواع العذاب الأليم لأصحاب الجحيم، وهي تحدد عاقبة كلا الفريقين وتوضحها. تتحدث الآية عن أربعة أنهار في الجنّة، لكلّ منها سائله ومحتواه الخاص، ثمّ تتحدث عن فواكه الجنّة، وأخيراً عن بعض المواهب المعنوية. تقول الآية أوّلاً: (مثل الجنّة التي وعد المتقون فيها أنها من ماء غير آسن) (1). "الآسن" يعني النتن، وبناءاً على هذا، فإنّ (ماء غير آسن) تعني الماء الذي لا يتغيّر طعمه ورائحته لطول بقائه وغيره ذلك، وهذا أوّل نهر من أنهار الجنّة، وفيه ماء زلال جار طيب الطعم والرائحة. ثمّ تضيف: (وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه) وذلك أنّ الجنّة مكان لا يعتريه الفساد، ولا تتغيّر أطعمة الجنّة بمرور الزمن، وإنّما تتغيّر الأطعمة في هذه الحياة الدنيا، لوجود أنواع الميكروبات التي تفسد المواد الغذائية بسرعة. ثمّ تطرّقت إلى ثالث نهر من أنهار الجنّة، فقالت: (وأنهار من خمر لذّة للشاربين). وأخيراً تبيّن الآية رابع أنهار الجنّة بأنّه: (وأنهار من عسل مصفّى). وعلاوة على هذه الأنهار المختلفة التي خلق كلّ منها لغرض، فقد تحدّثت الآية عن فواكه الجنّة في الموهبة الخامسة، فقالت الآية: (ولهم فيها من كلّ الثمرات) (2) فستوضع بين أيديهم وتحت تصرفهم كلّ الثمرات والفواكه المتنوّعة الطعم والرائحة، سواء التي يمكن تصوّرها، أو التي لا يمكن أن تخطر على أذهاننا اليوم ويصعب تصوّرها. وأخيراً تتحدث عن الموهبة السادسة التي تختلف عن المواهب المادية السابقة، إذ أنّ هذه الهبة معنوية روحية، فتقول: (ومغفرة من ربّهم) إذ ستمحو رحمته الواسعة كل هفواتهم وسقطاتهم، وسيمنحهم الله الإطمئنان والهدوء والرضى، ويجعلهم من المرضيين عنده والمحبّبين إليه، وسيكونون مصداق لقوله تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) (3). وبذلك فإنّ المؤمنين الطاهرين الصالحين يتمتّعون بأنواع المواهب المادية والمعنوية في الجنان الخالدة، وفي جوار رحمة الله. ولنرَ الآن ماذا سيكون مصير الفريق المقابل للمؤمنين، أي الكفار؟ تقول الآية متابعة لحديثها: (كمن هو خالد في النّار وسقوا ماءً حميماً فقطّع أمعاءهم) (4). "الأمعاء" جمع "معي" - على وزن سعي - و"مِعا" - على وزن غنا - وتطلق أحياناً على كلّ ما في البطن، وتقطيعها إشارة إلى شدّة حرارة هذا الشراب الجهنّمي المرعب، وقوّة إحراقه. ملاحظات 1 - أنهار الجنّة الأربعة يستفاد من آيات القرآن المجيد جيداً أنّ في الجنّة أنهاراً وعيوناً مختلفة، ولكلّ منها فائدة ولذّة خاصّة، وقد ورد ذكر أربعة نماذج منها في الآية المذكورة، وستأتي نماذج أُخرى في سورة الدهر، وسنذكرها في تفسيرها، إن شاء الله تعالى. إنّ التعبير بـ"الأنهار" في شأن هذه الأنواع الأربعة، يوحي بأنّ كلاً منها ليس نهراً واحداً، بل أنهار عديدة. لقد قلنا مراراً: إنّ نعم الجنّة ليست بالشيء الذي يمكن التحدّث عنه بألفاظ محادثاتنا اليومية في حياتنا الدنيا، فإنّ هذه الألفاظ قاصرة عن أن تجسدها تماماً، أو أن تعبر عنها بما يعكس حقيقتها، وكلّ ما تقدر عليه هو أن ترسم في الأذهان شبحاً باهت اللون عن تلك الحقائق العظيمة. لقد أشارت الآية - مورد البحث - إلى أنهار الماء واللبن والخمر والعسل، إذ يمكن أن يكون الأوّل لرفع العطش، وأمّا الثّاني كغذاء، والثّالث يبعث النشاط والحيوية، والرابعة يوجد القوّة واللذّة. والطريف أنّه يستفاد من آيات القرآن الأُخرى أنّ كلّ أصحاب الجنّة لا يشربون من كل هذه الأشربة، بل أنّ لها مراتب يشرب أصحاب كلّ مرتبة من الأشربة الموجودة في درجتهم، فنقرأ في الآية (28) من سورة المطففين: (عيناً يشرب بها المقرّبون). 2 - الشراب الطهور لا يخفى أنّ خمر الجنّة وشرابها لا علاقة له بخمر الدنيا الملوّث مطلقاً، بل هو كما يصفه القرآن في موضع آخر: (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) (5)، وليس فيه إلاّ العقل والنشاط واللذّة الروحية. 3 - أشربة لا يعتريها الفساد جاء في وصف أنهار الجنّة مرة أنّ ماءها (غير آسن)، وأخرى (لم يتغيّر طعمه)، وهو يوحي بأنّ أشربة الجنّة وأطعمتها تبقى على طراوتها وجدتها، ولِمَ لا تكون كذلك؟ وإنّما تتغيّر الأطعمة وتفسد بفعل الميكروبات المفسدة، ولولاها فإنّ أطعمة الدنيا تبقى هي الأُخرى على حالتها الأولى، ولما لم يكن للموجودات المفسدة مكان في الجنّة، فإنّ كلّ أشيائها صافية ونظيفة وطرية طازجة دائماً. 4 - لماذا الفواكه؟ لقد أكّدت الآية مورد البحث، وكثير من آيات القرآن الأُخرى على الفواكه من بين الأطعمة، الفواكه المتنوّعة المذاق، وهذا يبيّن أنّ الفاكهة أهم أغذية الجنّة، وحتى في هذه الدنيا، فإنّ الفاكهة أفضل وأسلم غذاء للإنسان. 5 - جملة (سُقوا) بصيغة الفعل المبني للمجهول، توضح أنّ أصحاب الجحيم يسقون الماء الحميم بالقوة، لا بإرادتهم، وبدل الإرتواء في تلك النّار المحرقة فإنّه يقطّع أمعاءهم، وكما هي طبيعة الجحيم، فإنّهم يرجعون إلى حالتهم الأولى، حيث لا موت هناك. ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ﴾ متغير لعارض وقرىء أسن كحذر ﴿وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ إلى حموضة أو غيرها ﴿وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ﴾ لذيذ أو مصدر وصف به ﴿وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى﴾ خالص من الفضلات كالشمع وغيره ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ أصناف خالصة من العيوب ﴿وَ﴾ لهم ﴿مَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ﴾ خبر محذوف أي من ﴿هُوَ خَالِدٌ﴾ في الجنة كمن هو خالد ﴿فِي النَّارِ وَسُقُوا﴾ عوضا عن أشربة تلك الأنهار ﴿مَاء حَمِيمًا﴾ شديد الحر ﴿فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ﴾ بحره.