التّفسير
الصلح المذل!!
متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدّث حول مسألة الجهاد، تشير هذه الآية إلى أحد الأُمور الهامة في مسألة الجهاد، وهو أنّ ضعفاء الإيمان يطرحون غالباً مسألة الصلح للفرار من مسؤولية الجهاد، ومصاعب ميدان الحرب.
من المسلّم أنّ الصلح خير وحسن جدّاً، لكن في محله، إذ يكون حينها صلحاً يحقق الأهداف الإسلامية السامية، ويحفظ ماء وجه المسلمين وحيثيتهم وهيبتهم وعظمتهم.
أمّا الصلح الذي يؤدي إلى ذلّتهم وانكسار شوكتهم فلا، ولذلك تقول الآية الشريفة: الآن وقد سمعتم الأوامر الإلهية في الجهاد (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون) (1).
أي: الآن وقد لاحت علائم انتصاركم وتفوّقكم، كيف تذلّون أنفسكم وترضون بالمهانة باقتراح الصلح الذي لا يعني إلاّ التراجع والهزيمة؟ فليس هذا صلحاً في الواقع، بل هو استسلام وخضوع ينبع من الضعف والإنهيار، وهو نوع من طلب الراحة والعافية، ويقبح بكم أن تتحملوا عواقبه الأليمة الخطرة.
ومن أجل رفع معنويات المسلمين المجاهدين تضيف الآية: (والله معكم ولن يتركم أعمالكم) فإنّ من كان الله معه تكون كلّ عوامل الإنتصار مسخّرة له، فلا يحس بالوحشة أبداً، ولا يدع للضعف والإنهزام سبيلاً إلى نفسه، ولا يستسلم للعدو باسم الصلح ولن يدع نتائج دماء الشهداء ومكاسبها تذهب سدى في اللحظات الحسّاسة.
(لن يتركم) من مادة "الوتر"، وهو المنفرد، ولذلك يقال لمن قتل قريبه، وبقي وحيداً: وِتْر.
وجاء أيضاً بمعنى النقصان.
وفي الآية - مورد البحث - كناية جميلة عن هذا المطلب، بأنّ الله سبحانه لن يترككم وحدكم، بل سيقرنكم بثواب أعمالكم، خاصّةً وأنّكم تعلمون أنّكم لن تخطوا خطوةً إلاّ كتبت لكم، فلم يكن الله لينقص من أجركم شيئاً، بل سيضاعفه ويزيد عليه من فضله وكرمه.
اتضح ممّا قلناه أنّ الآية مورد البحث لا تنافي مطلقاً الآية (61) من سورة الأنفال حيث تقول: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكّل على الله إنّه هو السميع العليم) لنجعل إحداهما ناسخة للأُخرى، بل إنّ كلاً منها ناظرة إلى مورد خاص، فإحداهما تنظر إلى الصلح المعقول، والأُخرى إلى الصلح الذي ليس في محله فإنّ أحدهما صلح يحفظ مصالح المسلمين، والآخر صلح يطرحه ضعفاء المسلمين وهم على أبواب النصر، ولذلك فإنّ تتمة آية سورة الأنفال تقول: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله).
وقد أشار أمير المؤمنين علي (ع) إلى كلا الصلحين في عهده لمالك الأشتر، حيث يقول: "ولا تدفعنّ صلحاً دعاك إليه عدوّك ولله فيه رضى" (2).
إنّ طرح قضية الصلح من ناحية العدو من جهة، وكونه مقترناً برضى الله سبحانه من جهة أُخرى، يبيّن انقسام الصلح إلى القسمين اللذين أشرنا إليهما فيما قلناه.
وعلى أية حال، فإنّ أمراء المسلمين وأولياء أُمورهم يجب أن يكونوا في غاية الحذر في تشخيص موارد الصلح والحرب، والتي هي من أعقد المسائل وأدقّها، لأنّ أدنى اشتباه في المحاسبة سيستتبع عواقب وخيمة في هذا المجال.
﴿فَلَا تَهِنُوا﴾ تضعفوا ﴿وَتَدْعُوا﴾ ولا تدعوا أو أن ندعو الكفار ﴿إِلَى السَّلْمِ﴾ الصلح ﴿وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ الغالبون ﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ بالنصرة ﴿وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ لن ينقصكم أجرها من وترت الرجل إذا قتلت قريبه وأفردته عنه.