والآية الأخيرة - من الآيات مورد البحث، وهي آخر آية من سورة محمّد - تأكيد آخر على ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل المادية وتعلّق الناس بها، ومسألة الإنفاق في سبيل الله، فتقول: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل).
وهنا يأتي سؤال، وهو: إنّ الآيات السابقة قد ذكرت أنّ الله لا يسألكم أموالكم، فكيف أمرت هذه الآية بالإنفاق في سبيل الله؟
غير أنّ تتمة الآية تجيب عن هذا السؤال عن طريقين، فتقول أولاً: (ومن يبخل فإنّما يبخل عن نفسه) (2) لأنّ ثمرة الإنفاق تعود عليكم أنفسكم في الدنيا والآخرة، حيث يقل التفاوت الطبقي، وعندها سيعم الأمن والهدوء في المجتمع، وتحل المحبّة والصفاء محل العداوة والحقد.
هذا ثوابكم الدنيوي.
وأمّا في الآخرة، فستمنحون مقابل كلّ درهم أو دينار تنفقونه الهبات والنعم العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر، وعلى هذا فإنّ من يبخل يبخل عن نفسه!
وبتعبير آخر: فإنّ الإنفاق هنا يعني أكثر ما يعني الإنفاق في أمر الجهاد، والتعبير بـ (في سبيل الله) يلائم هذا المعنى أيضاً، ومن الواضح أنّ أي نوع من المساهمة في تقدّم أمر الجهاد سيضمن وجود المجتمع واستقلاله وشرفه.
والجواب الآخر هو: (والله الغني وأنتم الفقراء) فهو غني عن إنفاقكم في سبيله، وغني عن طاعتكم، وإنّما أنتم الفقراء إلى لطفه ورحمته وثوابه وكرمه في الدنيا والآخرة.
إنّ الموجودات الممكنة - وما سوى الله سبحانه - متسربلة في الفقر جميعاً، والغني بذاته هو الله سبحانه لا غير، فإنّها فقيرة إليه دائماً، حتى في أصل وجودها، وتستمد العون من منبع الفيض الأزلي كلّ لحظة، فإذا انقطعت عنها رعايته ولطفه لحظة، فسينتهي وجودها، وتخرّ أبدانها جثثاً هامدة!
وتحذر الجملة الأخير جميع المسلمين أن اعرفوا قدر هذه النعمة الجليلة، والموهبة العظيمة، حيث جعلكم سبحانه حماة دينه القويم وأنصار دينه وأتباع رسوله وأصحابه، فحذار أن تقصروا في تعظيم هذه النعمة وإكبارها، إذ: (وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم).
أجل، إنّ هذا الحمل لن يسقط على الأرض أبداً، وهذه الرسالة العظيمة لا يمكن أن يتوقّف مسيرها، فإن أنتم لم تستمروا في موقفكم في الذب عن دين الله، واستصغرتم شأن هذه الرسالة العظيمة، فإنّ الله سبحانه سوف يأتي بقوم يتحمّلون أعباء هذه الرسالة... أُولئك قوم يفوقونكم مرّات في الإيثار والتضحية وبذل الأنفس والأموال والإنفاق في سبيل الله!
وقد جاء نظير هذا التهديد في الآية (54) من سورة المائدة، حيث تقول: (يا أيّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم).
والطريف أنّ أكثر المفسّرين قد نقلوا في ذيل الآية - مورد البحث - أنّ جماعة من أصحاب رسول الله (ص) سألوه بعد نزول هذه الآية: من هؤلاء الذين ذكرهم الله في كتابه؟ وكان "سلمان" جالساً قريباً من النّبي (ص)، فضرب النّبي (ص) بيده على فخذ سلمان - وفي رواية على كتفه - وقال: "هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس".
لقد أورد هذا الحديث وأمثاله محدّثو السنّة المعروفون في كتبهم المعروفة، كالبيهقي والترمذي، وعليه اتفاق مفسّري الشيعة والسنّة المشهورين، كصاحب تفسير القرطبي، وروح البيان، ومجمع البيان، والفخر الرازي، والمراغي، وأبي الفتوح الرازي وأمثالهم.
وورد في تفسير الدر المنثور عدة أحاديث في هذا الباب في ذيل الآية مورد البحث (3).
وروي حديث آخر عن الإمام الصادق (ع)، يكمل الحديث السابق، إذ يقول: "والله أبدل بهم خيراً منهم الموالي" (4).
إذا نظرنا إلى تاريخ الإسلام والعلوم الإسلامية بدقّة، وبنظرة بعيدة عن التعصّب، ولاحظنا سهم المسلمون غير العرب الإيرانيين خاصة - في ميادين الجهاد ومحاربة العدو من جهة، وتنقيح العلوم الإسلامية وتدوينها من جهة أخرى، فسنطلع على حقيقة هذا الحديث، وتفصيل هذا الكلام طويل.
اللّهمَّ! ثبّت أقدامنا في طريق الجهاد والإيثار والتضحية في سبيل دينك القويم.
اللّهمَّ! لا تسلبنا ما منحتنا من الفخر العظيم إذ جعلتنا دعاةً لدينك الحنيف.
إلهنا! زد في قوّتنا وإيماننا، وتضحياتنا وإخلاصنا في هذا الوقت الذي هبّت فيه عواصف الشرق والغرب الهوجاء لمحو آثار دينك.
آمين يا رب العالمين
نهاية سورة محمّد
﴿هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في الغزو وغيره ﴿فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ﴾ بما فرض عليه ﴿وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ﴾ لعود ضرر البخل عليه ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء﴾ فأمركم بالإنفاق لفقركم إلى ثوابه ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا﴾ عن طاعته ﴿يَسْتَبْدِلْ﴾ بخلق بدلكم ﴿قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ في التولي عن طاعته، سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عنهم فضرب فخذ سلمان وقال هذا وقومه، وعنهم (عليهم السلام) هم الموالي.