لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير نتائج الفتح المبين الكبرى: في هاتين الآيتين بيان للنتائج المباركة من "الفتح المبين" (صلح الحديبية)والتي ورد ذكره في الآية السابقة فتقول الآيتان: (ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ويتمّ نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً، وينصرك الله نصراً عزيزاً). وبهذا فإنّ الله منح نبيّه الكريم في ظل هذا الفتح المبين أربع مواهب عظيمة هي "المغفرة"، و"إتمام النعمة"، و"الهداية" و"النصر". بحثان 1 - الإجابة على بعض الأسئلة المهمة: تثار هنا أسئلة كثيرة دأب المفسّرون منذ زمن قديم حتى يومنا هذا بالإجابة على هذه الأسئلة! ومن هذه الأسئلةِ، الأسئلةُ الثلاثة التالية حول قوله تعالى لنبيّه: ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر!. 1 - ما المراد من العبارة الآنفة (ليغفر لك الله) مع أنّ النّبي معصوم من الذنب؟! 2 - وعلى فرض أن نغض النظر عن هذا الإشكال! فما علاقة المغفرة بالفتح وصلح الحديبية؟! 3 - وإذا كان المقصود من قوله تعالى "وما تأخّر" هو الذنوب المستقبلية! فكيف يمكن أن تكون الذنوب الآتية تحت دائرة العفو والمغفرة. أليس مثل هذا التعبير ترخيصاً لارتكاب الذنب؟! وقد أجاب كلّ من المفسّرين بنحو خاص على مثل هذه الإشكالات، ولكن للحصول على الإجابة "الجامعة" لهذه الإشكالات والتّفسير الدقيق لهذه الآيات لابدّ من ذكر مقدمة لهذا البحث وهي: إنّ المهم هو العثور على العلاقة الخفيّة بين فتح الحديبيّة ومغفرة الذنب لأنّها المفتاح الأصيل للإجابة على الأسئلة الثّلاثة المتقدّمة! وبالتدقيق في الحوادث التاريخية وما تمخّضت عنه نصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّه حين يظهر أيّ مذهب حق ويبرز في عالم الوجود فإنّ أصحاب السنن الخرافية الذين يرون أنفسهم ووجودهم في خطر يكيلون التهم والأُمور التافهة إليه ويشيعون الشائعات والأباطيل وينشرون الأراجيف الكاذبة بصدده وينسبون إليه الذنوب العديدة وينتظرون عاقبته وإلى أين ستصل؟! فإذا واجه هذا المذهب في مسيره الاندحار فإنّ ذلك يكون ذريعة قوية لإثبات النِسَب الباطلة ضدّه على أيدي أعدائه ويصرخون: ألم نقل كذا وكذا!! ولكن حين ينال الانتصار وتحظى مناهجه وخططه بالموفقية فإنّ تلك النسب تمضي كما لو كانوا قد رقموا على الماء!! وتتبدّل جميع أقوالهم إلى حسرات وندامة ويقولون عندئذ لم نكن نعلم! وخاصّةً في شأن النّبي محمّد (ص) كانت هذه التصوّرات والذنوب التي وصموها به كثيرة!! إذ عدّوه باغياً للحرب والقتال ومثيراً لنار الفتنة معتداً بنفسه لا يقبل التفاهم وما إلى ذلك! وقد كشف صلح الحديبيّة أنّ مذهبه على خلاف ما يزعمه أعداؤه إذ كان مذهباً "تقدّمياً" إلهياً... وكان آيات قرآنه ضامنة لتربية النفوس الإنسانية وطاوية لصحائف الظلم والإضطهاد والحرب والنزيف الدموي!. فهو يحترم كعبة الله وبيته العتيق ولا يهاجم أية جماعة أو قبيلة دون سبب، فهو رجل منطقيّ ويعشقه اتباعه، ويدعو جميع الناس بحقّ إلى محبوبهم "الله" وإذا لم يضطره أعداؤه إلى الحرب فهو داعية للسلام والصلح والدعة!... وعلى هذا فقد غسل صلح الحديبيّة جميع الذنوب التي كانت قبل الهجرة وبعد الهجرة قد نسبت إلى النّبي (ص) أو جميع الذنوب التي نسبت إليه قبل هذا الحادث أو ستنسب إليه في المستقبل احتمالاً... وحيث أنّ الله جعل هذا الفتح نصيب النّبي فيمكن أن يقال أن الله غفر للنبي ذنوبه جميعاً. والنتيجة أنّ هذه الذنوب لم تكون ذنوباً حقيقية أو واقعية بل كانت ذنوباً تصورية وفي أفكار الناس وظنّهم فحسب، وكما نقرأ في الآية (14) من سورة الشعراء في قصة موسى قوله مخاطباً ربّه (ولهم عليّ ذنب فأخاف أن يقتلون) في حين أنّ ذنبه لم يكن سوى نصرة المظلوم من بني إسرائيل وسحق ظلم الفراعنة لا غير!. وبديهي أنّ هذا الفعل لا يعدّ ذنباً، بل دفاع عن المظلومين ولكنّه كان يعدّ ذنباً في نظر الفراعنة وأتباعهم. وبتعبير آخر أنّ "الذنب" في اللغة يعني الآثار السيئة والتبعات التي تنتج عن العمل غير المطلوب، فكان ظهورُ الإسلام في البداية تدميراً لحياة المشركين، غير أنّ انتصاراته المتلاحقة والمتتابعة كانت سبباً لنسيان تلك التبعات. فمثلاً لو كان لدينا بيت قديم يوشك على الخراب ولكنّنا نلتجئُ إليه ولنا به علاقة وطيدة فقام أحد الناس بتخريبه فإنّنا نغضب منه ونخطّئُه على فعله ولكنّه بعد بنائه من جديد مُحكماً سامقاً فإنّ أحكامنا السابقة تمضي أدراج الرياح! وهكذا بالنسبة لمشركي مكّة سواءً قبل هجرة النّبي أم بعدها إذ كانت أفكارهم وأذهانهم مبلبلة عن الإسلام وشخص النّبي بالذات، غير أنّ انتصارات الإسلام أزالت هذه التصورات والأفكار! أجل: لو أخذنا مسألة العلاقة بين مغفرة هذه الذنوب وفتح الحديبيّة بنظر الاعتبار لاتضح الموضوع بجلاء، واستفدنا العلاقة من "اللام" في "ليغفر لك الله" في كونها مفتاح "الرمز" لفتح معنى الآية المغلق! غير أنّ من لم يلتفت إلى هذه "اللطيفة"... جعل عصمة النّبي (ص) موضع استفهام وقال: "والعياذ بالله" أنّ لديه ذنوباً غفرها الله بفتح "الحديبية" أو حمل الآية على خلاف ظاهر معناها وأنّ المراد (الذنوب عامّةً). وقال بعضهم: بل هي ذنوب الناس التي ارتكبوها في حقّ النّبي كأذاهم والإساءة إليه وقد غفرها الله بفتح "الحديبية" (وفي هذه الصورة يكون الذنب قد أُضيف إلى مفعوله معنىً لا إلى فاعله). أو حملوا الذنب على (ترك الأولى). وبعضهم فسّر ذلك بالفرض فقال: ليغفر لك الذنب الذي لو كنت عملته فَرضَاً أو ستعمله فقد غفر الله كلّ ذلك لك!. لكن من المعلوم أنّ كلّ هذه التفاسر لا تتجاوز التكلّف والتمحّل ودون أي دليل! إذ لو خدشنا في عصمة الأنبياء... لأنكرنا فلسفة وجودهم، لأنّ النّبي ينبغي أن يكون قدوة في كلّ شيء، فكيف يمكن المذنب أن يفي بهذا المنهج ويؤدّي حقّه؟! زدْ على ذلك، فالمذنب بنفسه يحتاج إلى قائد يرشده ويدلّه ليهتدي به. وهناك تفاسير أُخرى تخالف ظاهر الآية، والإشكال المهم فيها أنّها تقطع العلاقة ما بين مغفرة الذنب والفتح "صلح الحديبية". فأحسنُ التفاسير هو ما ذكرناه آنفاً، وهو ما يجيب على الأسئلة الثلاثة المتقدّمة في مكان واحد! ويبيّن إرتباط الجمل في الآية... كل ذلك هو في شأن الموهبة الأولى من المواهب الأربعة التي وهبها الله نبيّه في صلح الحديبية!. أمّا "إتمام النعمة" على النّبي وهدايته إيّاه الصراط المستقيم ونصره النصر العزيز... بعد الفتح في الحديبيّة فليست هذه الأُمور ممّا تخفى على أحد... فقد انتشر الإسلام بسرعة وسخّر القلوب المهيّأة! وظهرت عظمة تعليماته للجميع وأبطل السموم (المضادّة) وتمّت نعمة الله على النّبي وعلى المسلمين وهداهم الصراط المستقيم نحو الانتصارات حتى أنّ جيش الإسلام لم يجد أية مقاومة في فتح مكّة وفتح أكبر حصن للمشركين!. 2 - المراد من "ما تقدّم" و"ما تأخّر"... قرأنا في الآية السابقة قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر) فما المراد من هذا النص "ما تقدّم وما تأخّر" اختلف المفسّرون في بيان الآية: فقال بعضهم: المراد بما تقدّم هو عصيان آدم وحواء وترك الأولى من قبلهما، أمّا المراد بما تأخّر فهو ذنوب أُمّة محمّد (ص). وقال بعضهم: "ما تقدّم" إشارة إلى المسائل المتعلّقة بما قبل النبوة، و"ما تأخّر" إشارة إلى المسائل المتعلّقة بما بعدها... وقال بعضهم: المراد بما تقدّم هو ما تقدّم على صلح الحديبية، وما تأخّر أي ما تأخّر عنها من أمور وحوادث!. ولكن مع ملاحظة التّفسير الذي أوضحناه في أصل معنى الآية وخاصةً العلاقة بين مغفرة الذنب مع مسألة فتح الحديبية، يبدو بجلاء أنّ المراد هو التهم الباطلة التي وصمها المشركون - بزعمهم - بالنّبي (ص) في ما سبق وما لحق ولو لم يتحقّق هذا النصر العظيم لكانوا يتصوّرون أنّ جميع هذه الذنوب قطعية... غير أنّ هذا الانتصار الذي تحقّق للنبي طوى جميع الأباطيل والتهم (المتقدّمة) في حقّ النّبي وما سيُتّهم به في المستقبل في حال عدم انتصاره!. والشاهد الآخر على هذا التّفسير هو الحديث المنقول عن الإمام الرضا علي بن موسى عليهما السلام إذ سأله المأمون عن تفسير هذه الآية فقال: "لم يكن أحد عند مشركي أهل مكّة أعظم ذنباً من رسول الله (ص) لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وثلاثين صنماً فلمّا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص "التوحيد" كبر ذلك عليهم وقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيء عجابٌ إلى أن قالوا ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة إن هذا إلاّ اختلاق (1). فلمّا فتح الله تعالى على نبيّه مكّة قال الله تعالى: (إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر) عند مشركي أهل مكّة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدّم وما تأخّر لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكّة ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذ دعا الناس إليه فصار ذنبه عندهم مغفوراً بظهُوره عليهم" فلمّا سمع المأمون كلام الرضا قال له: "أحسنت، بارك الله فيك يا أبا الحسن". ﴿وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ ذا عز لا ذل معه.