التّفسير
اعتذار المخلفين:
ذكرنا - في تفسير الآيات الآنفة - أنّ النّبي (ص) توجّه من المدينة إلى مكّة مع ألف وأربعمائة من صحابته "للعُمرة"!.
وقد أُبلغ عن النّبي جميع من في البادية من القبائل أن يحضروا معه في سفره هذا، إلاّ أنّ قسماً من ضعيفي الإيمان لووا رؤوسهم عن هذا الأمر وأعرضوا عنه وكان تحليلهم هو أنّ المسلمين لا يستطيعون الحفاظ على أرواحهم في هذا السفر في حين أنّ كفار قريش كانوا في حالة حرب مع المسلمين وقاتلوهم في أُحد والأحزاب على مقربة من المدينة، فإذا توجّهت هذه الجماعة القليلة العزلاء من كلّ سلاح نحو مكّة وعرّضت نفسها إلى العدو المدجّج بالسلاح.
فكيف ستعود إلى بيوتها بعدئذ؟!
إلاّ أنّهم حين رأوا المسلمين وقد عادوا إلى المدينة ملاءَ الأيدي وافرين قد حصلوا على إمتيازات تستلفت النظر من صلح الحديبيّة دون أن تراق من أحدهم قطرة دم، عرفوا حينئذ خطأهم الكبير وجاؤوا إلى النّبي (ص) ليعتذروا إليه، ويبرّروا تخلّفهم عنه ويطلبوا منه أن يستغفر لهم!
غير أنّ الآيات آنفة الذكر نزلت ففضحتهم وأماطت عنهم اللثام.
وعلى هذا، فالآيات هذه - تبيّن حالة المخلّفين ضعاف الإيمان بعد أن بيّنت الآيات السابقة حال المنافقين والمشركين لتتمّ حلقات البحث ويرتبط بعضها ببعض!
تقول هذه الآيات: (سيقول المخلّفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم).
إنّهم لم يكونوا صادقين حتى في توبتهم!
فأبلغهم يا رسول و (قلْ فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضرّاً أو أراد بكم نفعاً) ؟!
فليس على الله بعزيز ولا عسير أن يحفكم بأنواع البلاء والمصائب وأنتم في دار أمنكم وبين أهليكم وأبنائكم كما لا يعزّ عليه أن يجعلكم في حصن حصين من بأس الأعداء ولو كنتم في مركزهم!
إنّما هو جهلكم الذي دعاكم إلى هذا التصور والاعتقاد!
أجلْ (بل كان الله بما تعملون خبيراً).
وأقصى من هذا فهو خبير بأسراركم ونيّاتكم وهو يعلم جيداً أنّ هذه الحيل والحجج الواهية لا صحة لها ولا واقعيّة... والواقع هو أنّكم متردّدون ضعيفو الإيمان.
وهذه الأعذار لا تخفى على الله ولا تحول دون عقابكم أبداً!
الطريف هنا أنّه يستفاد من لحن الآيات ومن التواريخ أيضاً أنّ هذه الآيات نزلت عند عودة النّبي (ص) إلى المدينة، أي أنّها قبل مجيء المخلّفين للإعتذار إليه - أماطت اللثام عنهم وكشفت الستار وفضحتهم!.
﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ الذين خلفهم ضعف اليقين والخوف من قريش فظنوا أنه يهلك ولا ينقلب إلى المدينة فلما رجع اعتلوا وقالوا ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ عن الخروج معك ﴿فَاسْتَغْفِرْ لَنَا﴾ الله من تخلفنا عنك ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ كذبهم الله فيما يقولون ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ فمن يمنعكم من مراده ﴿إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا﴾ كقتل أو هزيمة ﴿أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا﴾ كسلامة وغنيمة ﴿بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ فيعلم لما تخلفتم.