لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير التعصّب "وحمية الجاهلية" أكبر سدٍّ في طريق الكفّار: هذه الآية تتحدّث مرّة أُخرى عن (مجريات) الحديبيّة وتجسّم ميادين أُخرى من قضيتها العظمى... فتشير أوّلاً إلى واحد من أهم العوامل التي تمنع الكفار من الإيمان بالله ورسوله والإذعان والتسليم للحق والعدالة فتقول: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهلية) (1). ولذلك منعوا النّبي والمؤمنين أن يدخلوا بيت الله ويؤدّوا مناسكهم وينحروا "الهدي" في مكّة. وقالوا لو دخل هؤلاء - الذين قتلوا آباءنا وإخواننا في الحرب - أرضنا وديارنا وعادوا سالمين فما عسى أن تقول العرب فينا؟! وأية حيثية واعتبار لنا بعد؟ هذا الكبر والغرور والحميّة - حمية الجاهلية - منعتهم حتى من كتابة "بسم الله الرحمن الرحيم" بصورتها الصحيحة عند تنظيم معاهدة صلح الحديبيّة، مع أنّ عاداتهم وسننهم كانت تجيز العُمرة وزيارة بيت الله للجميع، وكانت مكّة عندهم حرماً آمناً حتى لو وجد أحدهم قاتل أبيه فيها أو أثناء المناسك فلا يناله منه سوء وأذى لحرمة البيت عنده، فهؤلاء - بهذا العمل - هتكوا حرمة بيت الله والحرم الآمن من جهة، وخالفوا سننهم وعاداتهم من جهة أخرى، كما أسدلوا ستاراً بينهم وبين الحقيقة أيضاً، وهكذا هي آثار حمية الجاهلية المميتة! "الحمية" في الأصل من مادة حَمي - على وزن حمد - ومعناها حرارة الشمس أو النّار التي تصيب جسم الإنسان وما شاكله، ومن هنا سمّيت الحُمّى التي تصيب الإنسان بهذا الاسم "حُمّى" على وزن كبرى، ويقال لحالة الغضب أو النخوة أو التعصّب المقرون بالغضب حمية أيضاً. وهذه الحالة السائدة في الأُمم هي بسبب الجهل وقصور الفكر والإنحطاط الثقافي خاصةً بين "الجاهليّين" وكانت مدعاة لكثير من الحروب وسفك الدماء!... ثمّ تضيف الآية الكريمة - وفي قبال ذلك - (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)... هذه السكينة التي هي وليدة الإيمان والإعتقاد بالله والإعتماد على لطفه دعتهم إلى الإطمئنان وضبط النفس وأطفأت لهب غضبهم حتى أنّهم قبلوا - ومن أجل أن يحفظوا ويرعوا أهدافهم الكبرى - بحذف جملة "بسم الله الرحمن الرحيم" التي هي رمز الإسلام في بداية الأعمال وأن يثبتوا - مكانها "بسمك اللّهمَّ" التي هي من موروثات العرب السابقين - في أوّل المعاهدة وحذفوا حتى لقب "رسول الله" التي يلي اسم محمّد (ص). وقبلوا بالعودة إلى المدينة من الحديبيّة دون أن يستجيبوا لهوى عشقهم بالبيت ويؤدّوا مناسك العمرة! ونحروا هديهم خلافاً للسنّة التي في الحج أو العمرة في المكان ذاته وأحلّوا من احرامهم دون أداء المناسك!... أجل، لقد رضوا بمرارة أن يصبروا إزاء كلّ المشاكل الصعبة، ولو كانت فيهم حميّة الجاهلية لكان واحد من هذه الأُمور الآنفة كفيلاً أن يشعل الحرب بينهم في تلك الأرض! أجل... إنّ الثقافة الجاهلية تدعو إلى "الحمية" و"التعصّب" و"الحفيظة الجاهلية"، غير أنّ الثقافة الإسلامية تدعو إلى "السكينة" و"الإطمئنان" و"ضبط النفس". ثمّ يضيف القرآن في هذا الصدد قائلاً: (وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقّ بها وأهلها)... (كلمة) هنا بمعنى "روح"، ومعنى الآية أنّ الله ألقى روح التقوى في قلوب أولئك المؤمنين وجعلها ملازمة لهم ومعهم، كما نقرأ - في هذا المعنى - أيضاً الآية (171) من سورة النساء في شأن عيسى بن مريم إذ تقول الآية: (إنّما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه). واحتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من "كلمة التقوى" ما أمر الله به المؤمنين في هذا الصدد! إلاّ أنّ المناسب هو "روح التقوى" التي تحمل مفهوماً تكوينياً، وهي وليدة الإيمان والسكينة والإلتزام القلبي بأوامر الله سبحانه، لذا ورد في بعض الروايات عن النبيّ (ص) أنّ المراد بكلمة التقوى هو كلمة لا إله إلاّ الله (2)، وفي رواية عن الإمام الصادق (ع) أنّه فسّرها بالإيمان (3). ونقرأ في بعض خطب النّبي (ص) قوله: "نحن كلمة التقوى وسبيل الهدى" (4) وشبيه بهذا التعبير ما نُقل عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) قوله: "ونحن كلمة التقوى والعروة الوثقى" (5)! وواضح أنّ الإيمان بالنبوّة والولاية مكمل للإيمان بأصل التوحيد ومعرفة الله لأنّهما جميعاً داعيانِ إلى الله ومناديان للتوحيد. وعلى كلّ حال فإنّ المسلمين لم يُبتلوا في هذه اللحظات الحسّاسة بالحميّة والعصبية والنخوة والحفيظة، وما كتب الله لهم من العاقبة المشرفة في الحديبيّة لم تمسسْه نار الحمية والجهالة! لأنّ الله يقول: (وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقّ بها وأهلها). وبديهي أنّه لا يُنتظر من حفنة عتاة وجهلة وعبدة أصنام سوى (حميّة الجاهلية) ولا ينتظر من المسلمين الموحّدين الذين تربّوا سنين طويلة في مدرسة الإسلام مثل هذا الخلق والطباع الجاهلية، ما ينتظر منهم هو الإطمئنان والسكينة والوقار والتقوى، وذلك ما أظهروه في الحديبيّة ولكن بعض حاديّ الطبع والمزاج أوشكوا على كسر هذا السدّ المنيع بما يحملوه من أنفسهم من ترسبات الماضي وأثاروا البلبلة والضوضاء، غير أنّ سكينة النّبي (ص) ووقاره كانا كمثل الماء المسكوب على النّار فأطفأها! وتُختتم الآية بقوله سبحانه: (وكان الله بكلّ شيء عليماً). فهو سبحانه يعرف نيّات الكفّار السيئة ويعرف طهارة قلوب المؤمنين أيضاً فينزل السكينة والتقوى عليهم هنا، ويترك أُولئك في غيّهم وحميّتهم حميّة الجاهلية، فالله يشمل كلّ قوم وأمّة بما تستحقّه من اللطف والرحمة أو الغضب والنقمة! ملاحظة ما هي حميّة الجاهلية؟! قلنا أنّ "الحميّة" في الأصل من مادة "حَمِي" ومعناها الحرارة، ثمّ صارت تستعمل في معنى الغضب، ثمّ استعملت في النخوة والتعصّب الممزوج بالغضب أيضاً... وهذه الكلمة قد تستعمل في هذا المعنى المذموم "مقرونة بالجاهلية أو بدونها" بعض الأحيان، وقد تستعمل في المدح حيناً آخر، فتكون عندئذ بمعنى التعصّب في الأُمور الإيجابية البنّاءة! يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) حين انتقده بعض أصحابه الضعاف المعاندين: "مُنيت بمن لا يطيع إذا أمرت ولا يجيب إذا دعوت أما دين يجمعكم ولا حميّة تحشمكم" (6). غير أنّ هذه الكلمة غالباً ما ترد في الذم كما ذكرها الإمام علي (ع) مراراً في خطبته القاصعة ذامّاً بها إبليس أمام المستكبرين: "صدّقه به أبناءُ الحمية وأخوان العصبية وفرسان الكبر والجاهلية" (7). وفي مكان آخر من هذه الخطبة يقول محذّراً من العصبيات الجاهلية: "فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية وأحقاد الجاهلية فإنّما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته ونزعاته ونفثاته" (8). وعلى كلّ حال فلا شكّ أنّ وجود مثل هذه الحالة في الفرد أو المجتمع باعث على تخّلف ذلك المجتمع وتكبيل العقل والفكر الإنساني ومنعه من الإدراك الصحيح والتشخيص السالم... وربّما تذرُ جميع مصالحه مع الرياح!... وأساساً فإنّ انتقال السنن الخاطئة من جيل لآخر ومن قوم لآخرين ما كان إلاّ في ظل هذه الحميّة المشؤومة، ومقاومة الأمم للأنبياء والقادة غالباً ما تكون عن هذه السبيل أيضاً... يُنقل عن الإمام علي بن الحسين حين سئل عن "العصبية" أنّه قال (ع): "العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم" (9). إنّ خير سبيل لمقاومة هذه السجية السيئة والنجاة من هذه المهلكة العظمى السعي والجد لرفع المستوى الثقافي والفكري وإيمان كلّ قوم وجماعة... وفي الحقيقة إنّ القرآن عالج هذا المرض بالآية المتقدّمة - محل البحث - حيث يتحدّث عن المؤمنين ذوي السكينة والتقوى، فحيث توجد التقوى فلا توجد حميّة الجاهلية، وحيث توجد حميّة الجاهلية فلا تقوى ولا سكينة. ﴿إِذْ جَعَلَ﴾ ظرف لعذبنا أو لأذكر مقدر ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ﴾ الأنفة ﴿حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا﴾ من غيرهم أو أحقاء بها ﴿وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ فيعلم أنهم أهلها.