سبب النّزول
ورد في شأن نزول الآيتين - هاتين - أنّ خلافاً وقع بين قبيلتي "الأوس" و"الخزرج" "وهما قبيلتان معروفتان في المدينة" أدّى هذا الخلاف إلى الإقتتال بينهما وأن يتنازعا بالعصي والهراوات والأحذية فنزلت الآيتان آنفتا الذكر وعلّمت المسلمين سبيل المواجهة مع أمثال هذه الحوادث (1).
وقال بعضهم: حدث بين نفرين من الأنصار خصومة واختلاف! فقال أحدهما للآخر: سآخذ حقّي منك بالقوة لأنّ قبيلتي كثيرة، وقال الآخر: لنمضِ ونحتكم عند رسول الله، فلم يقبل الأوّل، فاشتدّ الخلاف وتنازع جماعة من قبيلتيهما بالعصي والأحذية و"حتى" بالسيوف، فنزلت الآيتان آنفتا الذكر وبيّنت وظيفة المسلمين في مثل هذه الأُمور (2).
التّفسير
المؤمنون أخوة:
يقول القرآن هنا قولاً هو بمثابة القانون الكلّي العام لكلّ زمان ومكان: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) (3).
وصحيح أنّ كلمة "اقتتلوا" مشتقّة من مادة القتال ومعناها الحرب، إلاّ أنّها كما تشهد بذلك القرائن تشمل كلّ أنواع النزاع وإن لم يصل إلى مرحلة القتال والمواجهة "العسكرية" ويؤيّد هذا المعنى أيضاً بعض ما نقل في شأن نزول الآية... بل يمكن القول: إنّه لو توفّرت مقدّمات النزاع كالمشاجرات اللفظية مثلاً التي تجرّ إلى المنازعات الدامية فإنّه ينبغي وطبقاً لمنطوق الآية أن يُسعى إلى الإصلاح بين المتنازعين، لأنّه يمكن أن يستفاد هذا المعنى من الآية المتقدّمة عن طريق إلغاء الخصوصية.
وعلى كلّ حال، فإنّ من واجب جميع المسلمين أن يصلحوا بين المتنازعين منهم لئلاّ تسيل الدماء وأن يعرفوا مسؤوليتهم في هذا المجال، فلا يكونوا متفرّجين كبعض الجهلة الذين يمرّون بهذه الأُمور دون اكتراث وتأثّر! فهذه هي وظيفة المؤمنين الأولى عند مواجهة أمثال هذه الأُمور.
ثمّ يبيّن القرآن الوظيفة الثانية على النحو التالي: (فإن بغت إحداهما على الأُخرى) ولم تستسلم لاقتراح الصلح (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله).
وبديهيٌّ أنّه لو سالت دماء الطائفة الباغية والظالمة - في هذه الأثناء - فإثمها عليها، أو كما يصطلح عليه إنّ دماءهم هدر، وإن كانوا مسلمين، لأنّ الفرض أنّ النزاع واقع بين طائفتين من المؤمنين... وهكذا - فإنّ الإسلام يمنع من الظلم وإن أدّى إلى مقاتلة الظالم، لأنّ ثمن العدالة أغلى من دم المسلمين أيضاً، ولكن لا يكون ذلك إلاّ إذا فشلت الحلول السلمية.
ثمّ يبيّن القرآن الوظيفة الثالثة فيقول: (فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل).
أي لا ينبغي أن يقنع المسلمون بالقضاء على قوة الطائفية الباغية الظالمة بل ينبغي أن يعقب ذلك الصلح وأن يكون مقدّمة لقلع جذور عوامل النزاع، وإلاّ فإنّه بمرور الزمن ما أن يُحسّ الظالم في نفسه القدرة حتى ينهض ثانية ويثير النزاع.
قال بعض المفسّرين: يستفاد من التعبير "بالعدل" أنّه لو كان حقّ مضاع بين الطائفتين أو دم مراق وما إلى ذلك ممّا يكون منشأ للنزاع فيجب إصلاحه أيضاً، وإلاّ فلا يصدق عليه "إصلاح بالعدل" (4).
وحيث أنّه تميل النوازع النفسية أحياناً في بعض الجماعات عند الحكم والقضاء إلى إحدى الطائفتين المتخاصمتين وتنقض "الإستقامة" عند القضاة فإنّ القرآن ينذر المسلمين في رابع تعليماته وما ينبغي عليهم فيقول: (وأقسطوا إنّ الله يحبّ المقسطين) (5).
﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ جمع باعتبار المعنى ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ بما فيه رضا الله ﴿فَإِن بَغَتْ﴾ تعدت ﴿إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ ترجع إلى حكمه ﴿فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ﴾ قيد به الإصلاح الواقع بعد القتال لأنه مظنة الحيف ﴿وَأَقْسِطُوا﴾ اعدلوا في كل أمر ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ يرضى فعلهم ويصيبهم عليه