لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
في هذه الآية يبدأ القرآن فيقول: (يا أيّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنّ بعض الظن إثم). والمراد من "كثيراً من الظن" الظنون السيّئة التي تغلب على الظنون الحسنة بين الناس لذلك عبّر عنها بـ"الكثير" وإلاّ فإنّ حسن الظن لا أنّه غير ممنوع فحسب، بل هو مستحسن كما يقول القرآن في الآية (12) من سورة النور: (لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً). وممّا يلفت النظر أنّه قد نُهي عن كثير من الظنّ، إلاّ أنّه في مقام التعليل تقول الآية: (إنّ بعض الظن إثم) ولعلّ هذا الإختلاف في التعبير ناشئٌ من أنّ الظنون السيّئة بعضها مطابق للواقع وبعضها مخالف له، فما خالف الواقع فهو إثم لا محالة، ولذلك قالت الآية: (إنّ بعض الظن إثم) وعلى هذا فيكفي هذا البعض من الظنون الذي يكون إثماً أن نتجنّب سائر الظنون لئلا نقع في الإثم! وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو أنّ الظنّ السيء أو الظن الحسن ليسا اختياريين (غالباً) وإنّما يكون كلٌّ منهما على أثر سلسلة من المقدّمات الخارجة عن اختيار الإنسان والتي تنعكس في ذهنه، فكيف يصحُّ النهي عن ذلك؟! وفي مقام الجواب يمكن القول بأنّه: 1 - المراد من هذا النهي هو النهي عن ترتيب الآثار، أي متى ما خطر الظنّ السيء في الذهن عن المسلم فلا ينبغي الإعتناء به عمليّاً، ولا ينبغي تبديل أُسلوب التعامل معه ولا تغيير الروابط مع ذلك الطرف، فعلى هذا الأساس فإنّ الإثم هو إعطاء الأثر وترتّبه عليه. ولذلك نقرأ في هذا الصدد حديثاً عن نبيّ الإسلام يقول فيه: "ثلاث في المؤمن لا يستحسنّ، وله منهنّ مخرج فمخرجه من سوء الظن ألاّ يحقّقه" (3)... إلى آخر الحديث الشريف. 2 - يستطيع الإنسان أن يبعد عن نفسه سوء الظن بالتفكير في المسائل المختلفة، بأن يفكر في طرق الحمل على الصحة، وأن يجسّد في ذهنه الإحتمالات الصحيحة الموجودة في ذلك العمل، وهكذا يتغلّب تدريجاً على سوء الظنّ! فبناءً على هذا ليس سوء الظن شيئاً (ذا بال) بحيث يخرج عن اختيار الإنسان دائماً! لذلك فقد ورد في الروايات أنّه: "ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك منه، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجدُ لها في الخير محملاً" (4). وعلى كلّ حال فإنّ هذا الأمر واحد من أكثر الأوامر والتعليمات جامعيّةً ودقّةً في مجال روابط الإنسان الإجتماعية الذي تضمن الأمن في المجتمع بشكل كامل! وسيأتي بيانه وتفصيله في فقرة البحوث. ثمّ تذكر الآية موضوع "التجسّس" فتنهى عنه بالقول: (ولا تجسّسوا)!. و"التجسّس" و"التحسّس" كلاهما بمعنى البحث والتقصّي، إلاّ أنّ الكلمة الأُولى غالباً ما تستعمل في البحث عن الأُمور غير المطلوبة، والكلمة الثانية على العكس حيث تستعمل في البحث عن الأُمور المطلوبة أو المحبوبة! ومنه ما ورد على لسان يعقوب في وصيته وِلْدَه! (يا بني اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه) (5). وفي الحقيقة إنّ سوء الظن باعث على التجسّس، والتجسس باعث على كشف الأسرار وما خفي من أمور الناس، والإسلام لا يبيح أبداً كشف أسرار الناس! وبتعبير آخر إنّ الإسلام يريد أن يكون الناس في حياتهم الخاصة آمنين من كل الجهات، وبديهي أنّه لو سمح الإسلام لكلّ أحد أن يتجسّس على الآخرين فإنّ كرامة الناس وحيثيّاتهم تتعرض للزوال، وتتولد من ذلك "حياة جهنمية" يحسّ فيها جميع أفراد المجتمع بالقلق والتمزّق!. وبالطبع فإنّ هذا الأمر لا ينافي وجود أجهزة "مخابرات" في الحكومة الإسلامية لمواجهة المؤامرات، ولكنّ هذا لا يعني أنّ لهذه الأجهزة حقَّ التجسّس في حياة الناس الخاصّة "كما سنبيّن ذلك بإذن الله فيما بعد". وأخيراً فإنّ الآية تضيف في آخر هذه الأوامر والتعليمات ما هو نتيجة الأمرين السابقين ومعلولهما فتقول: (ولا يغتب بعضكم بعضاً). وهكذا فإنّ سوء الظن هو أساس التجسس، والتجسس يستوجب إفشاء العيوب والأسرار، والإطلاع عليها يستوجب الغيبة، والإسلام ينهى عن جميعها علةً ومعلولاً! ولتقبيح هذا العمل يتناول القرآن مثلاً بليغاً يجسّد هذا الأمر فيقول: (أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)!. أجل، إنّ كرامة الأخ المسلم وسمعته كلحم جسده، وابتذال ماء وجهه بسبب اغتيابه وإفشاء أسراره الخفية كمثل أكل لحمه. كلمة "ميتاً" للتعبير عن أنّ الإغتياب إنّما يقع في غياب الأفراد، فمثلهم كمثل الموتى الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، وهذا الفعل أقبح ظلم يصدر عن الإنسان في حقِّ أخيه!. أجل، إنّ هذا التشبيه يبيّن قبح الإغتياب وإثمه العظيم. وتولي الروايات الإسلامية - كما سيأتي بيانها - أهمية قصوى لمسألة الإغتياب، ونادراً ما نجد من الذنوب ما فيه من الإثم إلى هذه الدرجة. وحيث أنّه من الممكن أن يكون بعض الأفراد ملوّثين بهذه الذنوب الثلاثة ويدفعهم وجدانهم إلى التيقّظ والتنبّه فيلتفتون إلى خطئهم، فإنّ السبيل تفتحه الآية لهم إذ تُختتم بقوله تعالى: (واتّقوا الله إنّ الله توّاب رحيم). فلابدّ أن تحيا روح التقوى والخوف من الله أوّلاً: وعلى أثر ذلك تكون التوبة والإنابة لتشملهم رحمة الله ولطفه. بحوث 1 - الأمن الإجتماعيُّ الكامل! إنّ الأوامر أو التعليمات الستة الواردة في الآيتين آنفتي الذكر (النهي عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب وسوء الظن والتجسس والإغتياب) إذا نُفّذت في المجتمع فإنّ سمعة وكرامة الأفراد في ذلك المجتمع تكون مضمونة من جميع الجهات، فلا يستطيع أحد أن يسخر من الآخرين - على أنّه أفضل - ولا يمدّ لسانه باللمز، ولا يستطيع أن يهتك حرمتهم باستعمال الألقاب القبيحة ولا يحقّ له حتى أن يسيء الظن بهم، ولا يتجسس عن حياة الأفراد الخاصة ولا يكشف عيوبهم الخفية (باغتيابهم). وبتعبير آخر إنّ للإنسان رؤوس أموال أربعة ويجب أن تحفظ جميعاً في حصن هذا القانون وهي: "النفس والمال والناموس وماء الوجه". والتعابير الواردة في الآيتين محل البحث والروايات الإسلامية تدل على أنّ ماء وجه الأفراد كأنفسهم وأموالهم بل هو أهم من بعض الجهات. الإسلام يريد أن يحكم المجتمع أمن مطلق، ولا يكتفي بأن يكفّ الناس عن ضرب بعضهم بعضاً فحسب، بل أسمى من ذلك بأن يكونوا آمنين من ألسنتهم، بل وأرقى من ذلك أن يكونوا آمنين من تفكيرهم وظنّهم أيضاً... وأن يُحسّ كلٌّ منهم أنّ الآخر لا يرشقه بنبال الإتهامات في منطقة أفكاره. وهذا الأمن في أعلى مستوى ولا يمكن تحقّقه إلاّ في مجتمع رسالي مؤمن. يقول النّبي (ص) في هذا الصدد: "إنّ الله حرّم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يُظنّ به السوء" (6). إنّ سوء الظن لا أنّه يؤثر على الطرف المقابل ويسقط حيثيّته فحسب، بل هو بلاء عظيم على صاحبه لأنّه يكون سبباً لإبعاده عن التعاون مع الناس ويخلق له عالماً من الوحشة والغربة والإنزواء كما ورد في حديث عن أمير المؤمنين علي (ع) أنّه قال: "من لم يحسن ظنّه استوحش من كلّ أحد" (7). وبتعبير آخر، إنّ ما يفصل حياة الإنسان عن الحيوان ويمنحها الحركة والرونق والتكامل هو روح التعاون الجماعي، ولا يتحقّق هذا الأمر إلاّ في صورة أن يكون الإعتماد على الناس (وحسن الظن بهم) حاكماً... في حين أنّ سوء الظن يهدم قواعد هذا الإعتماد، وتنقطع به روابط التعاون، وتضعف به الروح الإجتماعية. وهكذا الحال في التجسس والغيبة أيضاً. إنّ سييء النظرة والظن يخافون من كلّ شيء ويستوحشون من كلّ أحد وتستولي على أنفسهم نظرة الخوف، فلا يستطيعون أن يقفوا على ولي ومؤنس يطوي الهموم، ولا يجدون شريكاً للنشاطات الإجتماعية، ولا معيناً ونصيراً ليوم الشدّة! ولا بأس بالإلتفات إلى هذه اللطيفة، وهي أنّ المراد من "الظن" هنا هو الظن الذي لا يستند إلى دليل، فعلى هذا إذا كان الظن في بعض الموارد مستنداً إلى دليل فهو ظنّ معتبر، وهو مستثنى من هذا الحكم، كالظن الحاصل من شهادة نفرين عادلين. 2 - لا تجسّسوا! رأينا أنّ القرآن يمنع جميع أنواع التجسس بصراحة تامّة، وحيث إنّه لم يذكر قيداً أو شرطاً في الآية فيدلّ هذا على أنّ التجسس في أعمال الآخرين والسعي إلى إذاعة أسرارهم إثم، إلاّ أنّ القرائن الموجودة داخل الآية وخارجها تدل على أنّ هذا الحكم متعلّق بحياة الأفراد الشخصية والخصوصية. ويصدق هذا الحكم أيضاً في الحياة الإجتماعية في صورة أن لا يؤثر في مصير المجتمع. لكن من الواضح أنّه إذا كان لهذا الحكم علاقة بمصير المجتمع أو مصير الآخرين فإنّ المسألة تأخذ طابعاً آخر، ومن هنا فإنّ النّبي (ص) كان قد أعدّ أشخاصاً وأمرهم أن يكونوا عيوناً لجمع الأخبار واستكشاف المجريات واستقصائها ليحيطوا بما له علاقة بمصير المجتمع. ومن هذا المنطلق أيضاً يمكن للحكومة الإسلامية أن تتّخذ أشخاصاً يكونون عيوناً لها أو منظمة واسعة للإحاطة بمجريات الأُمور، وأن يواجهوا المؤامرات ضد المجتمع أو التي يراد بها إرباك الوضع الأمني في البلاد، فيتجسّسوا للمصلحة العامة حتى لو كان ذلك في إطار الحياة الخاصة للأفراد! إلاّ أنّ هذا الأمر لا ينبغي أن يكون ذريعةً لهتك حرمة هذا القانون الإسلامي الأصيل، وأن يسوّغ بعض الأفراد لأنفسهم أن يتجسّسوا في حياة الأفراد الخاصة بذريعة التآمر والإخلال بالأمن، فيفتحوا رسائلهم مثلاً، أو يراقبوا الهاتف ويهجموا على بيوتهم بين حين وآخر!! والخلاصة أنّ الحدّ بين التجسس بمعناه السلبي وبين كسب الأخبار الضرورية لحفظ أمن المجتمع دقيق وظريف جداً، وينبغي على مسؤولي إدارة الأُمور الإجتماعية أن يراقبوا هذا الحدّ بدقّة لئلاّ تهتك حرمة أسرار الناس، ولئلاّ يتهدّد أمن المجتمع والحكومة الإسلامية!. 3 - الغيبة من أعظم الذنوب وأكبرها! قلنا إنّ رأس مال الإنسان المهم في حياته ماءُ وجهه وحيثيّته، وأي شيء يهدّده فكأنّما يهدّد حياته بالخطر. وأحياناً يعدّ اغتيال وقتل الشخصية أهم من اغتيال الشخص نفسه، ومن هنا كان إثمه أكبر من قتل النفس أحياناً. إنّ واحدةً من حِكم تحريم الغيبة أن لا يتعرّض هذا الإعتبار العظيم للأشخاص ورأس المال آنف الذكر لخطر التمزّق والتلوّث وأن لا تهتك حرمة الأشخاص ولا تلوّث حيثيّاتهم، وهذا مطلب مهم تلقّاه الإسلام باهتمام بالغ! والأمر الآخر إنّ الغيبة تولّد النظرة السيئة وتضعف العلائق الإجتماعية وتوهنها وتتلف رأس مال الإعتماد وتزلزل قواعد التعاون "الإجتماعي"! ونعرف أنّ الإسلام أولى أهميةً بالغةً من أجل الوحدة والإنسجام والتضامن بين أفراد المجتمع، فكلّ أمر يقوي هذه الوحدة فهو محل قبول الإسلام وتقديره، وما يؤدّي إلى الإخلال بالأواصر الاجتماعية فهو مرفوض، والاغتياب هو أحد عوامل الوهن والتضعيف... ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ الإغتياب ينثر في القلوب بذور الحقد والعداوة وربّما أدّى أحياناً إلى الاقتتال وسفك الدماء في بعض الأحيان. والخلاصة أنّنا حين نقف على أنّ الإغتياب يعدّ واحداً من كبائر الذنوب فإنّما هو لآثاره السيئة فرديةً كانت أم اجتماعية! وفي الروايات الإسلامية تعابير مثيرة في هذا المجال نورد هنا على سبيل المثال بعضاً منها! قال رسول الله (ص): "إنّ الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل وأربى الربى عِرض الرجل المسلم" (8). وما ذلك إلاّ لأنّ الزنا وإن كان قبيحاً وسيئاً، إلاّ أنّ فيه جَنبة حق الله، ولكنَّ الربا وما هو أشدّ منه كإراقة ماء وجه الإنسان وما إلى ذلك فيه جنبة حق الناس. وقد ورد في رواية أُخرى أنّ النّبي (ص) خطب يوماً بصوت عال ونادى: "يامعشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه! لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فإنّه من تتّبع عورة أخيه تتّبع الله عورته ومن تتّبع الله عورته يفضحه في جوف بيته" (9). كما ورد في حديث ثالث أنّ الله أوحى لموسى (ع) قائلاً: "من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنّة، ومن مات مصرّاً عليه فهو أوّل من يدخل النّار" (10). كما نقرأ حديثاً آخر عن النّبي (ص) أنّه قال: "الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه" (11). وهذا التشبيه يدلُّ على أنّ الإغتياب كمثل الجَرب الذي يأكل اللحم، فإنّه يذهب بالإيمان بسرعة. ومع الإلتفات إلى أنّ بواعث الغيبة ودوافعها أمور متعدّدة كالحسد والتكبّر والبخل والحقد والأنانية وأمثالها من صفات دميمة وقبيحة يتّضح السرّ في سبب كون الغيبة وتلويث سمعة المسلمين وهتك حرمتهم لها هذا الأثر المدمّر لإيمان الشخص. والروايات الإسلامية في هذا الصدد كثيرة، ونختتم بحثنا هذا بذكر حديث آخر نقل عن الإمام الصادق (ع) إذ يقول: "من روى على مؤمن روايةً يريد بها شينه وهدم مروّته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان" (12). إنّ جميع هذه التأكيدات والعبارات المثيرة إنّما هي للأهمية القصوى التي يوليها الإسلام لصون ماء الوجه وحيثيّة المؤمنين الإجتماعية، وكذلك للأثر المخرّب - الذي تتركه الغيبة - في وحدة المجتمع والإعتماد المتبادل في القلوب، وأسوأ من كل ذلك أنت الغيبة تسوق إلى إشعال نار العداوة والبغضاء والنفاق وإشاعة الفحشاء في المجتمع. لأنّه حين تنكشف عيوب الناس الخفيّة عن طريق الغيبة لا تبقى لها خطورة في أعين الناس ويكون التلوّث بها في غاية البساطة!. 4 - مفهوم الإغتياب؟ "الغيبة" أو الإغتياب كما هو ظاهر الاسم ما يقال في غياب الشخص، غاية ما في الأمر أنّه بقوله هذا يكشف عيباً من عيوب الناس. سواءاً كان عيباً جسدياً أو أخلاقيّاً أو في الأعمال أو في المقال بل حتى في الأومور المتعلّقة به كاللباس والبيت والزوج والأبناء وما إلى ذلك! فبناءً على هذا ما يقال عن الصفات الظاهرة للشخص، الآخر لا يُعدّ اغتياباً، إلاّ أن يراد منه الذم والعيب فهو في هذه الصورة حرام، كما لو قيل في مقام الذم أنّ فلاناً أعمى أو أعور أو قصير القامة أو شديد الأدمة والسمرة أكوس اللحية إلخ... فيتّضح من هذا أنّ ذكر العيوب الخفية بأي قصد كان يعدّ غيبةً وهو حرام أيضاً، وذكر العيوب الظاهرة إذا كان بقصد الذم فهو حرام، سواءً أدخلناه في مفهوم الغيبة أم لا؟! كل هذا في ما لو كانت هذه العيوب في الطرف الآخر واقعية، أمّا إذا لم تكن أصلاً فتدخل تحت عنوان "البهتان" وإثمه أشدّ من الإغتياب بمراتب. ففي حديث ورد عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وأمّا الأمر الظاهر فيه مثل الحدّة والعجلة فلا، والبهتان أن تقول ما ليس فيه" (13). ومن هنا يتبيّن أنّ ما يتبجّح به العوام من أعذار في الغيبة غير مقبول كأن يقول المغتاب: ليس هذا اغتياباً بل هو صفته، في حين إذا لم يكن قوله الذي يعيبه فيه صفة له فهو بهتان لا أنّه غيبة. أو أن يقول: هذا كلام أقوله في حضوره أيضاً، في حين أنّ كلامه أمام الطرف الآخر لا يترتّب عليه إثم الإغتياب فحسب، بل يتحمّل بسبب الإيذاء إثماً أكبر ووزراً أثقل. 5 - علاج الغيبة والتوبة منها! إنّ الغيبة كسائر الصفات الذميمة تتحوّل تدريجاً إلى صورة مرض نفسي بحيث يلتذ المغتاب من فعله ويحس بالإغتباط والرضا عندما يريق ماء وجه فلان، وهذه مرتبة من مراتب المرض القلبي الخطير جداً. ومن هنا فينبغي على المغتاب أن يسعى إلى علاج البواعث الداخلية للإغتياب التي تكمن في أعماق روحه وتحضّه على هذا الذنب، من قبيل البخل والحسد والحقد والعداوة والإستعلاء والأنانية! فعليه أن يطهّر نفسه عن طريق بناء الشخصية والتفكير في العواقب السيئة لهذه الصفات الذميمة وما ينتج عنها من نتائج مشؤومة، ويغسل قلبه عن طريق الرياضة النفسية ليستطيع أن يحفظ لسانه من التلوّث بالغيبة. ثمّ يتوجّه إلى مقام التوبة، وحيث أنّ التوبة من الغيبة فيها "جنبة" حق الناس، فإنّ عليه إذا كان ممكناً ولا يحصل له أيّ مشكل أو معضل - أن يعتذر ممّن اغتابه حتى ولو بصورة مجملة أو معمّاة كأن يقول: إنّني أغتابك أحياناً لجهلي فسامحني واعفُ عني ولا يطيل في بيان الغيبة وشرحها لئلاّ يحدث عامل آخر للفساد أو الإفساد! وإذا لم يستطع الوصول إلى الطرف الآخر، أو لا يعرفه، أو أنّه مضى إلى ربّه فيستغفر له ويعمل صالحاً، فلعلّ الله يغفر له ببركة العمل الصالح ويرضي عنه الطرف الآخر. 6 - موارد الإستثناء! وآخر ما ينبغي ذكره في شأن الغيبة أنّ قانون الغيبة كأي قانون آخر له استثناءات، من جُملتها أنّه يتّفق أحياناً في مقام "الإستشارة" مثلاً لإنتخاب الزوج أو الشريك في الكسب وما إلى ذلك أن يسأل إنسان أنساناً آخر، فالأمانة في المشورة التي هي قانون إسلامي مسلّم به توجب أن تبيّن العيوب إن وجدت في الشخص الآخر لئلاّ يتورّط المسلم في مشكلة، فمثلُ هذا الإغتياب بمثل هذا القصد لا يكون حراماً. وكذلك في الموارد الأُخرى التي فيها أهداف مهمّة كهدف المشورة في العمل أو لإحقاق الحق أو التظلّم وما إلى ذلك. وبالطبع فإنّ "المتجاهر بالفسق" خارج عن موضوع الغيبة، ولو ذكر إثمه في غيابه فلا إثم على مغتابه، إلاّ أنّه ينبغي الإلتفات إلى أنّ هذا الحكم خاص بالذنب الذي يتجاهر به فحسب. وممّا يسترعي الإلتفات أيضاً هو أنّ الغيبة ليست حراماً فحسب، فالإستماع إليها حرام أيضاً، والحضور في مجلس الإغتياب حرام، بل يجب طبقاً لبعض الروايات أن يردّ على المغتاب، يعني أن يدافع عن أخيه المسلم الذي يراد إراقة ماء وجهه، وما أحسن مجتمعاً تُراعى فيه هذه الأُصول الأخلاقية بدقّة!. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ﴾ قيد بالكثير لأن منه ما يحسن كحسن الظن بالله وبأهل الصلاح ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ يستحق به العقوبة ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ تتبعوا عورات المؤمنين بالبحث عنها ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾ سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الغيبة فقال أن تذكر أخاك بما يكرهه فإن كان فيه فقد اغتبته وإلا فقد بهته ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾ تمثيل الاغتياب بأفضح مثال وفيه مبالغات تقرير الاستفهام ومحبة المكروه وإشعارا حد بأن لا أحد يحبه والتمثيل بأكل لحم الإنسان وكونه أخا وميتا ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ أي عرض عليكم ذلك فكرهتموه بحكم العقل والطبع فاكرهوا ما هو نظيره ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ بترك الغيبة ﴿إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾.