وبعد الإنتهاء من بيان الحديث حول أهل الجنّة وأهل النار ودرجاتهما، فإنّ القرآن يلفت أنظار المجرمين للعبرة والإستنتاج فيقول: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشدّ منهم بطشاً فنقّبوا في البلاد) فكانت تلك الأقوام أقوى من هؤلاء وكانوا يفتحون البلدان ويتسلّطون عليها، إلاّ أنّهم وبسبب كفرهم وظلمهم أهلكناهم ..
فهل وجدوا منفذاً ومخرجاً للخلاص من الموت والعذاب الإلهي (هل من محيص)؟!
"القرن" و "الإقتران" في الأصل هو "القرب" أو "الإقتراب" ما بين الشيئين أو الأشياء، ويطلق لفظ "القرن" على الجماعة المتزامنة في فترة واحدة، ويجمع على "قرون" ثمّ أطلق هذا اللفظ على فترة من الزمن حيث يطلق على ثلاثين سنة أحياناً كما يطلق على مئة سنة أيضاً، فإهلاك القرون معناه إهلاك الاُمم السابقة.
و "البطش" معناه حمل الشيء وأخذه بالقوّة والقدرة، كما يستعمل هذا اللفظ بمعنى الفتك والحرب.
و "نقّبوا": فعل من مادّة نقب، ومعناه الثقب في الجدار أو الجلد، غير أنّ الثقب يطلق على ما يقع في الخشب، والنقب معناه أعمّ وأوسع.
وهذه المفردة إذا استعملت كفعل كما هو في الآية فيعني ذلك الحركة والسير وشقّ الطريق، كما يعني السيطرة على البلدان والنفوذ فيها أيضاً.
"المنقبة": من المادّة ذاتها، وتطلق على الصفات البارزة في الشخص وأفعاله الكريمة التي لها تأثير ونفوذ في نفوس الآخرين، أو أنّها تشقّ له الطريق في الإرتقاء والسمو!
و "النقيب": هو من يبحث عن أحوال جماعة ما ويطّلع على أخبارهم وينفذ في أنفسهم.
و "المحيص": كلمة مشتقّة من الحيص على زنة "الحيف"، ومعناها الإنحراف والعدول عن الشيء، ومن هنا فقد إستعملت هذه الكلمة في الفرار من المشاكل والهزيمة عن المعركة!.
وعلى كلّ حال فإنّ الآية تنذر الكفّار المعاصرين للنّبي (ص) أن يستقرئوا تاريخ الماضين وأن ينظروا في قصصهم للإعتبار، ليروا ما صنع بهؤلاء المعاندين..
الذين كانوا اُمماً وأقواماً أشدّ من هؤلاء "وليفكّروا بعاقبتهم أيضاً" وهذا المعنى ورد مراراً في القرآن منها الآية 8 من سورة الزخرف إذ نقرأ قوله تعالى: (فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً).
ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية محلّ البحث تشير إلى "ثمود" هذه الطائفة التي كانت تسكن مناطق جبلية تدعى "بالحجر" وتقع شمال الحجاز، فكانت تقطنها وتنقّب في الجبال وتحفر صخورها فتصنع منها القصور الرائعة، غير أنّ ظاهر النصّ أنّ هذه الآية مفهومها واسع، فيشمل هؤلاء وغيرهم أيضاً.
أمّا جملة (هل من محيص) فيحتمل أن تكون سؤالا على لسان الكفّار السابقين حين أحدق بهم العذاب، فكانوا يسألون: هل من فرار ومحيص عنه، كما يحتمل أن يكون سؤالا من قبل الله للكفّار المعاصرين للنبي (ص) أي هل إستطاع مَن كان قبلكم من الكفرة الفرار من قبضة العذاب؟ أو هل يستطيع من يعاند النّبي أن يهرب من مثل هذا لو أحدق به؟!
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ﴾ من القرون المكذبة ﴿هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ﴾.