لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ يذكر القرآن الوصف الثالث لأهل الجنّة المتّقين فيقول: (وفي أموالهم حقّ للسائل والمحروم). كلمة "حقّ" هنا هو إمّا لأنّ الله أوجب ذلك عليهم: كالزكاة والخمس وسائر الحقوق الشرعية الواجبة، أو لأنّهم التزموه وعاهدوا أنفسهم على ذلك، وفي هذه الصورة يدخل في هذا المفهوم الواسع حتّى غير الحقوق الشرعية الواجبة. ويعتقد بعض المفسّرين أنّ هذه الآية ناظرة إلى القسم الثاني فحسب، فهي لا تشمل الحقوق الواجبة .. لأنّ الحقوق الواجبة واردة في أموال الناس جميعاً، المتّقين وغير المتّقين حتّى الكفّار. فعلى هذا حين يقول القرآن: (وفي أموالهم حقّ) فإنّما يعني أنّه إضافة إلى واجباتهم وحقوقهم أوجبوا على أنفسهم حقّاً ينفقونه من مالهم في سبيل الله للسائل والمحروم. إلاّ أنّه يمكن أن يقال أنّ الفرق بين المحسنين وغيرهم هو أنّ المحسنين يؤدّون هذه الحقوق، في حين أنّ غيرهم ليسوا مقيدين بذلك. كما يمكن أن يقال في تفسير الآية أنّ المراد بالسائل في ما يخصّ الحقوق الواجبة، لأنّه يحقّ له السؤال والمطالبة بها .. والمراد بالمحروم في ما يخصّ الحقوق المستحبّة إذ ليس له حقّ المطالبة بها. ويصرّح "الفاضل المقداد" في كتابه "كنز العرفان" أنّ المراد من قوله: (حقّ معلوم) هو الحقّ الذي ألزموه أنفسهم في أموالهم ويرون أنفسهم مسؤولين عنه(7). وجاء نظير هذا المعنى في سورة المعارج الآيتين 24 و25 إذ يقول سبحانه: (والذين في أموالهم حقّ معلوم للسائل والمحروم). ومع ملاحظة أنّ حكم وجوب الزكاة نزل في المدينة وآيات هذه السورة جميعها مكيّة، فيتأيّد الرأي الأخير. وما وصلنا من روايات عن أهل البيت (عليهم السلام) يؤكّد أيضاً أنّ المراد من "حقّ معلوم" شيء غير الزكاة الواجبة. إذ نقرأ حديثاً عن الإمام الصادق (ع) يقول(8): "لكنّ الله عزّوجلّ فرض في أموال الأغنياء حقوقاً غير الزكاة فقال عزّوجلّ (والذين في أموالهم حقّ معلوم للسائل)، فالحقّ المعلوم غير الزكاة وهو شيء يفرضه الرجل على نفسه في ماله ... إن شاء في كلّ يوم وإن شاء في كلّ جمعة وإن شاء في كلّ شهر". وفي هذا المجال أحاديث متعدّدة اُخر منقولة عن الإمام علي بن الحسين والإمام الباقر والإمام الصادق أيضاً(9). وهكذا فإنّ تفسير الآية واضح بيّن. وهناك كلام في الفرق بين "السائل" و "المحروم"، فقال بعضهم "السائل" هو من يطلب العون من الناس، أمّا "المحروم" فمن يحافظ على ماء وجهه ويبذل قصارى جهده ليعيش دون أن يمدّ يده إلى أحد، أو يطلب العون من أحد، بل يصبّر نفسه. وهذا هو ما يعبّر عنه بالمحارف، لأنّه قيل في كتب اللغة في معنى "المحارف" بأنّه الشخص الذي لا ينال شيئاً مهمّاً سعى وجدّ فكأنّ سبل الحياة مغلقة بوجهه! وعلى كلّ حال، فهذا التعبير يشير إلى هذه الحقيقة وهي لا تنتظروا أن يأتيكم المحتاجون ويمدّوا أيديهم إليكم، بل عليكم أن تبحثوا عنهم وتجدوا الأفراد المحرومين الذين يعبّر عنهم القرآن بأنّهم (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف)(10).. لتساعدوهم وتحفظوا ماء أوجههم، وهذا دستور مهم لحفظ حيثية المسلمين المحرومين وينبغي الإهتمام به. وهؤلاء الأشخاص يمكن معرفتهم - كما صرّح بذلك القرآن "تعرفهم بسيماهم". أجل فبرغم سكوتهم إلاّ أنّ في عمق وجوههم آثار الهموم وما تحمله أنفسهم من آلام يعرفها المطّلعون، ويخبر لون وجههم عن كربتهم. بحوث 1 - التوجّه نحو الله وخلق الله ما ورد في هذه الآيات عن المتّقين وأوصافهم يتلخّص - في الحقيقة - في قسمين "التوجّه نحو الله" "الخالق" وذلك في ساعات يتوفّر فيها من جميع الجهات الإستعداد لبيان الحاجة عنده مع حضور القلب، وتبلغ أسباب إنشغال الفكر وإنصراف الذهن إلى أدنى حدّ أي في أواخر الليل! والآخر "التوجّه نحو الخلق" ومعرفة إحتياج المحتاجين سواءً أظهروا حاجتهم أم كتموها. وهذا المطلب هو ما أشار إليه القرآن في آياته مراراً وأوصى به، والآيات التي يرد فيها ذكر الصلاة، ثمّ يتلوها ذكر الزكاة، وتعول على الإثنين معاً، تشير إلى هذه المسألة، لأنّ الصلاة أبرز مظهر لعلاقة الإنسان بالخالق، والزكاة أجلى مظهر لعلاقته بخلق الله. 2 - السهر ديدن العشّاق مع أنّ صلاة الليل من الصلوات المستحبّة والنافلة إلاّ أنّ القرآن المجيد أشار إليها مراراً، وهذا دليل على أهميّتها القصوى حتّى أنّ القرآن عدّها وسيلة لبلوغ "المقام المحمود" وأساساً لقرّة العين "كما هو في الآية 79 من سورة الإسراء والآية 17 من سورة ألم السجدة". وفي الرّوايات الإسلامية أيضاً إهتمام بالغ على هذه القضيّة وبيان الحاجة "في صلاة الليل" والسهر في السحر: ففي مكان يعدّها النّبي بأنّها كفّارة عن الذنوب فيقول: "ياعلي ثلاث كفّارات: ... منها: التهجّد بالليل والناس نيام"(11). وفي حديث آخر ورد عنه (ص) أنّه قال: "أشراف اُمّتي حملة القرآن وأصحاب الليل"(12). وأيضاً في حديث آخر عنه (ص) يوصي علياً (ع) إذ قال أربع مرّات: عليك بصلاة الليل(13). وينقل عن الإمام الصادق في تفسير الآية محلّ البحث: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون): أنّه قال: كانوا أقلّ الليالي تفوتهم لا يقومون فيها(14). كما ورد في حديث عن رسول الله (ص) أنّه قال: الركعتان في جوف الليل أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها(15). كما نقرأ حديثاً عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال لسليمان الديلمي "أحد أصحابه": لا تدع قيام الليل فإنّ المغبون من حُرم قيام الليل(16). وبالطبع فإنّ الرّوايات في هذا الصدد كثيرة ويلاحظ فيها تعابير مثيرة وطريفة جدّاً ولا سيّما التعبير بأنّ صلاة الليل وسيلة "لمحو الذنوب" و "تيقّظ الفكر" و "إشراق القلب" و "جلب الرزق" و "سعة العيش" و "الصحّة"، ولو جمعنا هذه الرّوايات لحصلنا على كتاب مستقل(17). وقد كان لنا بحوث اُخر في هذا المجال ذيل الآية (79) من سورة الإسراء وذيل الآية (17) من سورة الم السجدة فلا بأس بمراجعتها. 3 - حقّ السائل والمحروم! ممّا ينبغي ذكره أنّنا قرأنا في الآيات المتقدّمة أنّ في أموال الصالحين والمحسنين حقّاً للسائل والمحروم، وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّهم يعدّون أنفسهم مدينين للمحتاجين والمحرومين، ويعدّون السائل أو المحروم ذا حقّ عليهم، حقّ ينبغي دفعه إليه دون إمتنان ولا أذى، فكأنّه دين من سائر الديون. وكما قلنا آنفاً فإنّ هذا التعبير كما تدلّ عليه القرائن المتعدّدة لا علاقة له بالزكاة الواجبة وأمثالها، بل هو ناظر إلى النفقة المستحبّة التي يعدّها المتّقون دَيناً عليهم(18). ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ﴾ معلوم ألزموا به أنفسهم ﴿لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ الذي يحسب غنيا فيحرم الصدقة لتعففه.