سبب النّزول
جاء في رواية أنّ قريشاً إجتمعت في دار الندوة(1) ليفكّروا في مواجهة دعوة النّبي الإسلامية التي كانت تعدّ خطراً كبيراً على منافعهم غير المشروعة.
فقال رجل من قبيلة "عبدالدار" ينبغي أن ننتظر حتّى يموت، لأنّه شاعر على كلّ حال، وسيمضي عنّا كما مات زهير والنابغة والأعشى "ثلاثة شعراء جاهليون" وطوي بساطهم .. وسيطوى بساط محمّد أيضاً بموته.
قالوا ذلك وتفرّقوا فنزلت الآيات آنفة الذكر وردّت عليهم(2).
التّفسير
اُمنيات المشركين وتحدّي القرآن
كان الكلام في الآيات المتقدّمة على قسم مهمّ من نعم الجنّة وثواب المتّقين وكان الكلام في الآيات التي سبقتها عن بعض عذاب أهل النار.
لذلك فإنّ الآية الاُولى من الآيات محلّ البحث تخاطب النّبي فتقول: "فذكّر"!
لأنّ قلوب عشّاق الحقّ تكون أكثر إستعداداً بسماعها مثل هذا الكلام، وقد آن الأوان أن تبيّن الكلام الحقّ لها!
وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّ الهدف الأصلي من ذكر جميع تلك النعم ومجازاة الفريقين هو تهيئة الأرضية الروحية لقبول حقائق جديدة! وفي الحقيقة فإنّه ينبغي على كلّ خطيب أن يستفيد من هذه الطريقة لنفوذ كلامه وتأثيره في قلوب السامعين.
ثمّ يذكر القرآن الإتّهامات التي أطلقها أعداء النّبي الألدّاء المعاندون فيقول: (فما أنت بنعمة ربّك بكاهن ولا مجنون).
"الكاهن" يطلق على من يخبر عن الأسرار الغيبية، وغالباً ما كان الكاهن يدّعي بأنّه له علاقة بالجنّ ويستمدّ الأخبار الغيبية منهم، وكان الكهنة في الجاهلية - خاصّةً - كثيرين .. ومن ضمنهم الكاهنان "سطيح" و "شق"، والكهنة أفراد أذكياء، إلاّ أنّهم يستغلّون ذكاءهم فيخدعون الناس بإدّعاءاتهم الفارغة.
والكهانة محرّمة في الإسلام وممنوعة ولا يعتدّ بأقوال الكهنة! لأنّ أسرار الغيب خاصّة بعلم الله ولا يطلع غيبه إلاّ من إرتضى من رسول وإمام وحسب ما تقتضيه المصلحة.
وعلى كلّ حال فإنّ قريشاً ومن أجل أن تشتّت الناس وتصرّفهم عن النّبي (ص) كانت تتّهمه ببعض التّهم، فتارةً تتّهمه بأنّه كاهن، وتارةً تتّهمه بأنّه مجنون، والعجب أنّها لم تقف على تضاد الوصفين، لأنّ الكهنة اُناس أذكياء والمجانين على خلافهم!! ولعلّ الجمع بين الإفترائين في الآية إشارة إلى هذا التناقض في الكلام من قبل القائلين.
(فذكر) فاثبت على التذكير ولا تبال بقولهم (فما أنت بنعمة ربك) بسبب إنعامه عليك (بكاهن ولا مجنون) كما يزعمون.