التّفسير
ما هو كلامكم الحقّ؟
هذه الآيات تواصل البحث الإستدلالي السابق - كذلك - وهي تناقش المنكرين للقرآن ونبوّة محمّد (ص) وقدرة الله سبحانه.
وهي آيات تبدأ جميعها بـ"أم" التي تفيد الإستفهام وتشكّل سلسلة من الإستدلال في أحد عشر سؤالا متتابعاً (بصورة الإستفهام الإنكاري)، وبتعبير أجلى: إنّ هذه الآيات تسدّ جميع الطرق بوجه المخالفين فلا تدع لهم مهرباً في عبارات موجزة ومؤثّرة جدّاً بحيث ينحني الإنسان لها من دون إختياره إعظاماً ويعترف ويقرّ بإنسجامها وعظمتها.
فأوّل ما تبدأ به هو موضوع الخلق فتقول: (أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون)(1).
وهذه العبارة الموجزة والمقتضبة في الحقيقة هي إشارة إلى "برهان العليّة" المعروف الوارد في الفلسفة وعلم الكلام لإثبات وجود الله، وهو أنّ العالم الذي نعيش فيه ممّا لا شكّ - فيه - حادث (لأنّه في تغيير دائم، وكلّ ما هو متغيّر فهو في معرض الحوادث، وكلّ ما هو في معرض الحوادث محال أن يكون قديماً وأزليّاً).
والآن ينقدح هذا السؤال، وهو إذا كان العالم حادثاً فلا يخرج عن الحالات الخمس التالية:
1 - وُجد من دون علّة!
2 - هو نفسه علّة لنفسه.
3 - معلولات العالم علّة لوجوده.
4 - إنّ هذا العالم معلول لعلّة اُخرى وهي معلولة لعلّة اُخرى إلى ما لا نهاية.
5 - إنّ هذا العالم مخلوق لواجب الوجود الذي يكون وجوده ذاتياً له.
وبطلان الإحتمالات الأربع المتقدّمة واضح، لأنّ وجود المعلول من دون علّة محال، وإلاّ فينبغي أن يكون كلّ شيء موجوداً في أي ظرف كان، والأمر ليس كذلك!
والإحتمال الثاني وهو أن يوجد الشيء من نفسه محال أيضاً، لأنّ مفهومه أن يكون موجوداً قبل وجوده، ويلزم منه إجتماع النقيضين فلاحظوا بدقّة.
وكذلك الإحتمال الثالث وهو أنّ مخلوقات الإنسان خلقته، وهو واضح البطلان إذ يلزم منه الدور!.
وكذلك الإحتمال الرابع وهو تسلسل العلل وترتّب العلل والمعلول إلى ما لا نهاية أيضاً محال، لأنّ سلسلة المعلولات اللاّ محدودة مخلوقة، والمخلوق مخلوق ويحتاج إلى خالق أوجده، ترى هل تتحوّل الأصفار التي لا نهاية لها إلى عدد؟! أو ينفلق النور من ما لا نهاية الظلمة؟! وهل يولد الغنى من ما لا نهاية له في الفقر والفاقة؟
فبناءً على ذلك لا طريق إلاّ القبول بالإحتمال الخامس، أي خالقية واجب الوجود (فلاحظوا بدقّة أيضاً).
وحيث أنّ الركن الأصلي لهذا البرهان هو نفي الإحتمالين الأوّل والثاني فإنّ القرآن إقتنع به فحسب.
والآن ندرك جيّداً وجه الإستدلال في هذه العبارات الموجزة!
(أم خلقوا من غير شيء) من غير خالق (أم هم الخالقون) أنفسهم.