لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
6 - جملة: (ما كذب الفؤاد ما رأى) هي أيضاً دليل على الرؤية القلبية لا البصرية الحسّية لجبرئيل. 7 - ثمّ بعد هذا كلّه فما ورد من الرّوايات عن أهل البيت لا يفسّر هذه الآيات بأنّها في رؤية النّبي لجبرئيل، بل الرّوايات موافقة للتفسير الثاني القائل بأنّ المراد من هذه الآيات الرؤية الباطنية (القلبية) لذات الله المقدّسة التي تجلّت للرسول وتكرّرت في المعراج واهتزّ لها النّبي وهالته(4). ينقل الشيخ الطوسي في أماليه عن ابن عبّاس عن رسول الله (ص) أنّه قال: "لمّا عُرِج بي إلى السماء دنوت من ربّي عزّوجلّ حتّى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى"(5). وينقل الشيخ الصدوق (رحمه الله) في علل الشرائع المضمون ذاته عن هشام بن الحكم عن الإمام موسى بن جعفر (ع) من حديث طويل أنّه قال: "فلمّا اُسري بالنّبي وكان من ربّه كقاب قوسين أو أدنى رُفِعَ له حجاب من حُجُبهِ"(6). وفي تفسير علي بن إبراهيم ورد أيضاً: "ثمّ دنا - يعني رسول الله - من ربّه عزّوجلّ"(7) وقد ورد هذا المعنى في روايات متعدّدة ولا يمكن عدم الإكتراث بهذا المعنى. كما ورد هذا المعنى في روايات أهل السنّة، إذ نقل صاحب "الدرّ المنثور" ذلك عن ابن عبّاس من طريقين(8). فمجموع هذه القرائن يدعونا إلى إختيار التّفسير الثاني القائل بأنّ المراد من "شديد القوى" هو الله، وأنّ النّبي كان قد إقترب من الله تعالى أيضاً. ويبدو أنّ ما دعا أغلب المفسّرين إلى الإعراض عن هذا التّفسير (الثاني) وأن يتّجهوا إلى التّفسير (الأوّل) هو أنّ هذا التّفسير فيه رائحة التجسّم، ووجود مكان لله، مع أنّه من المقطوع به أنّه لا مكان له ولا جسمَ: (لا تدركه الأبصار وهو يُدرك الأبصار)،(9) (أينما تولّوا فثمَّ وجه الله)،(10) (وهو معكم أينما كنتم).(11) ولعلّ مجموع هذه المسائل أيضاً جعل بعض المفسّرين يظهر عجزه عن تفسير هذه الآيات ويقول: هي من أسرار الغيب الخفيّة علينا. قيل أنّهم سألوا بعض المفسّرين عن تفسير هذه الآيات فقال: إذا كان جبرئيل غير قادر على بلوغ ذلك المكان فمن أنا حتّى أدرك معناه(12)؟! ولكن بملاحظة أنّ القرآن كتاب هداية وهو نازل ليتدبّر الناس ويتفكّروا في آياته فقبول هذا المعنى مشكل أيضاً. إلاّ أنّنا إذا أخذنا بنظر الإعتبار أنّ المراد من هذه الآيات هو نوع من الرؤية الباطنية والقرب المعنوي الخاصّ فلا تبقى أيّة مشكلة حينئذ. توضيح ذلك: ممّا لا شكّ فيه أنّ الرؤية الحسّية لله غير ممكنة لا في الدنيا ولا في الاُخرى .. لأنّ لازمها جسمانيّته وماديّته، ولازم ذلك أيضاً تغيّره وتحوّله وفساده وأنّه يحتاج إلى الزمان والمكان، وهو مبرّأ عن كلّ ذلك لأنّه واجب الوجود. إلاّ أنّ الله سبحانه يمكن رؤيته بالرؤية العقلية والقلبية، وهو ما أشار إليه أمير المؤمنين في جوابه على "ذعلب اليماني": "لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان"(13). لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ الرؤية الباطنية على نحوين: رؤية عقلانية وتحصل عن طريق الإستدلال. واُخرى رؤية قلبية، وهي إدراك فوق إدراك العقل ورؤية وراء رؤيته! هذا المقام لا ينبغي أن يُدعى بمقام الإستدلال، بل هو المشاهدة، مشاهدة قلبية باطنية، وهذا المقام يحصل لأولياء الله على درجاتهم المتفاوتة وسلسلة مراتبهم .. لأنّ الرؤية الباطنية هي على مراتب أيضاً ولها درجات كثيرة، وبالطبع فإنّ إدراك حقيقتها لمن لم يبلغ ذلك المقام في غاية الصعوبة. ومن الآيات المتقدّمة بما فيها من قرائن مذكورة يمكن أن يستفاد أنّ نبي الإسلام (ص) في الوقت الذي كان ذا مقام مشهود وفي مقام الشهود، فإنّه بلغ الأوج في طول عمره مرّتين فنال الشهود الكامل: الأوّل: يحتمل أنّه كان في بداية البعثة، والثاني في المعراج، فبلغ مقاماً قريباً من الله وتكشّفت عنه الحجب الكثيرة، مقاماً عجز عن بلوغه حتّى جبرئيل الذي هو من الملائكة المقرّبين. وواضح أنّ تعابير مثل "فكان قاب قوسين أو أدنى" وأمثال ذلك إنّما هو كناية عن شدّة القرب، وإلاّ فإنّ الله ليس بينه وبين عبده فاصلة مكانية لتقاس بالقوس أو الذراع، و "الرؤية" في الآيات - هنا - ليست رؤية بصرية أيضاً، بل الباطنية القلبية. وفي البحوث السابقة في تفسير "لقاء الله" الوارد في آيات متعدّدة على أنّه من ميزات يوم القيامة مراراً قلنا إنّ هذا اللقاء على خلاف ما يتصوّره أصحاب الأفكار القصيرة والعقول الضيّقة بأنّه لقاء حسّي ومادّي، بل هو نوع من الشهود الباطني وإن كان في المراحل الدنيا ولا يصل إلى مراحل لقاء الأنبياء والأولياء لله، فكيف بمرحلة شهود النّبي الكامل ليلة المعراج!! ومع ملاحظة هذا التوضيح تزول الإشكالات على هذا التّفسير، وإذا روعيت بعض التعابير المخالفة للظاهر فلم تعامل بالمنطق الضيّق وفسّرت بما وراء المسائل المادية فما يرد من إشكالات على هذا التّفسير لا يعدّ شيئاً مهمّاً بالقياس إلى ما يرد من إشكالات على التّفسير الأوّل .. فمع الإلتفات إلى ما قلناه نمرّ مروراً جديداً على الآيات محلّ البحث ونعالج مضمونها من هذا المنطلق والمنظار! فعلى هذا التّفسير يبيّن القرآن نزول الوحي على النّبي (ص) بالصورة التالية. إنّ الله الذي هو شديد القوى علّم النّبي في وقت بلغ حدّ الكمال والإعتدال في الاُفق الأعلى(14). ثمّ قرب وصار أكثر إقتراباً حتّى كان بينه وبين الله مقدار قاب قوسين أو أقل وهناك أوحى الله إليه ما أوحاه. وحيث أنّ هذا اللقاء الباطني يصعب تصوّره لدى البعض، فانّه يؤكّد أنّ ما رآه قلب النّبي كان حقّاً وصادقاً ولا ينبغي تكذيبه أو مجادلته. وكما بيّنا فإنّ تفسير هذه الآيات بشهود النّبي الباطني لله تعالى هو أكثر صحّة وأكثر إنسجاماً وموافقة للرّوايات الإسلامية، وأكرم فضيلة للنبي، ومفهومها أجمل وألطف، والله أعلم بحقائق الاُمور(15). ونختم هذا البحث بحديث عن النّبي (ص) وآخر عن علي (ع). 1 - سئل رسول الله (ص) "هل رأيت ربّك؟ فأجاب: "رأيته بفؤادي"(16). 2 - وفي خطبة الإمام علي (179) في نهج البلاغة إذ سأله ذعلب اليماني: هل رأيت ربّك ياأمير المؤمنين؟ فأجاب: "أفأعبد ما لا أراه .. " ثمّ أشار سلام الله عليه بتفصيل ما بيّنه آنفاً. ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ أي فيما رأى من صورة جبرئيل أو ما أنكر فؤاده ما رآه ببصره.