لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث يقول القرآن بضرس قاطع: (إن هي إلاّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان)(3). فلا دليل لديكم من العقل، ولا دليل عن طريق الوحي على مدّعاكم، وليس لديكم إلاّ حفنة من الأوهام والخيالات الباطلة. ثمّ يختتم القرآن الآية بالقول: (إن يتّبعون إلاّ الظنّ وما تهوى الأنفس(2))فهذه الخيالات والموهومات وليدة هوى النفس (ولقد جاءهم من ربّهم الهدى) .. إلاّ أنّهم أغمضوا أعينهم عنه وخلّفوه وراء ظهورهم وتاهوا في هذه الأوهام والضلالات! بحوث 1 - أصنام العرب الثلاثة المشهورة: كان لمشركي العرب أصنام كثيرة، إلاّ أنّ ثلاثةً منها كانت ذات أهميّة خاصّة عندهم، وهي "اللات" و "العزّى" و "مناة". وهناك كلام بل أقوال في تسمية هذه الأصنام ومن صنعها ومكانها والجماعة التي تعبدها، ونكتفي بما ورد في كتاب "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب" هنا فحسب. فأوّل صنم معروف إختاره العرب كان (مناة)، حيث انّه بعد أن نقل "عمرو بن لحي" عبادة الأصنام من الشام إلى الحجاز، صُنع هذا الصنم في منطقة قريبة من البحر الأحمر بين المدينة ومكّة، وكان العرب جميعهم يحترمون هذا الصنم ويقدّمون له القرابين، إلاّ أنّ أكثر القبائل إهتماماً بهذا الصنم قبيلتا الأوس والخزرج .. حتّى كان فتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة - وكان النّبي متّجهاً من المدينة إلى مكّة - فأرسل أمير المؤمنين علياً فكسره. وبعد أن صنع عرب الجاهلية صنم مناة، عمدوا فصنعوا صنماً آخر، هو اللات من صخر ذي أربع زوايا، وجعلوه في الطائف، في المكان الذي توجد فيه اليوم منارة مسجد الطائف الشمالية، وكان أغلب ثقيف في خدمة هذا الصنم، وحين أسلمت ثقيف أرسل النّبي المغيرة، فكسر ذلك الصنم، والصنم الثالث الذي إختاره العرب هو العزّى وكان في محلّ قريب من ذات عرق في طريق مكّة باتّجاه العراق وكانت قريش تهتمّ بهذا الصنم كثيراً. وكان العرب يهتّمون بهذه الأصنام الثلاثة إلى درجة أنّهم كانوا يقولون عند الطواف حول البيت: واللات والعزّي ومناة الثالثة الاُخرى فإنّهم الغرانيق العُلى وإنّ شفاعتهم لترتجى(4). وكانوا يزعمون بأنّ هذه الأصنام بنات الله "ويظهر أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ هذه الأصنام تماثيل الملائكة التي كانوا يزعمون أنّها بنات الله!!". العجب أنّ تسميتها مستقاة من أسماء الله .. غالباً غاية ما في الأمر كانت أسماؤها مؤنثة لتدلّ على إعتقادهم .. فاللات(5) أصلها اللاهة، ثمّ سقط حرف الهاء فصارت الكلمة اللات، و العزّى مؤنث الأعز، و مناة من منى الله الشيء أي قدّره، ويعتقد بعضهم أنّ مناة من النوء وهو عبارة عن طلوع بعض النجوم التي تصحبها المزن وبعضهم قالوا بأنّ مناة مأخوذة من "مَنَى" على وزن "سعى"، ومعناه سفك الدم، لأنّ دماء القرابين كانت تسفك(6) عندها وعلى كلّ حال فإنّ العرب كانوا يحترمون هذه الأصنام حتّى أنّهم سمّوا كثيراً من رجالهم بعبد العزّى وعبد منات وربّما سمّوا بعض قبائلهم بمثل هذه الأسماء(7). 2 - أسماء دون مسميّات إنّ واحداً من أقدم اُسس الشرك هو تنوّع الموجودات في العالم حيث أنّ ذوي الفكر القصير والنظر الضيّق لم يستطيعوا تصديق أنّ كلّ هذه الموجودات المتنوّعة في السماء والأرض مخلوقة لله الأحد "لأنّهم يقيسون ذلك بأنفسهم إذ لا يتسنّى لهم التسلّط إلاّ على أمر واحد أو عدّة اُمور" لذلك كانوا يزعمون أنّ لكلّ نوع من الموجودات ربّاً يعبّر عنه "بربّ النوع" كربّ نوع البحر، وربّ نوع الصحراء، وربّ نوع المطر، وربّ نوع الشمس، وربّ الحرب، وربّ الصلح ... وهذه الآلهة المزعومة التي كانوا يسمّونها الملائكة أحياناً كانت حسب إعتقادهم تحكم هذا العالم وحيثما تقع مشكلة يلتجأ إلى ربّ نوعها وحيث أنّ أرباب الأنواع لم تكن موجودات محسوسة فقد صنعوا لها تماثيل وعبدوها! هذه العقائد الخرافية إنتقلت من اليونان إلى المناطق الاُخرى حتّى وصلت إلى الحجاز، ولكن حيث أنّ التوحيد الإبراهيمي كان سائداً لدى العرب فلم يمكنهم إنكار وجود الله، فمزجت هذه العقائد واحدة بالاُخرى، ففي الوقت الذي يعتقدون فيه بالله اعتقدوا بالملائكة الذين هم في زعمهم بناته، وعبدوا الأحجار التي صنعوا منها التماثيل. فالقرآن هدم هذه الخرافات بعبارة موجزة غزيرة المعنى فقال: (إن هي إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) فلم يك أي شيء صادراً من ربّ المطر الذي سمّيتموه أنتم، ولا من ربّ الشمس المزعوم، ولا البحر، ولا الحرب، ولا الصلح. فكلّ شيء صادر عن الله، وعالم الوجود كلّه طوع أمره، وإتّساق جميع هذه الموجودات المختلفة في السماء والأرض وإنسجامها بعضها مع بعض دليل على وحدة الخالق، ولو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا. 3 - الدافع النفسي لعبادة الأصنام عرفنا الأصل التاريخي لعبادة الأصنام إلاّ أنّ لها دوافع ومباديء نفسيّة وفكرية أيضاً، وقد اُشير إليها في الآيات المتقدّمة، وذلك هو اتّباع الظنّ وما تهوى الأنفس!! والخيالات والأوهام الحاصلة للجهلاء، ومن ثمّ تنتقل إلى مقلّديهم من المتحجّرين، وينتقل هذا التقليد من نسل إلى نسل. وبالطبع فإنّ معبوداً كالصنم يتلاءم جيّداً مع أهوائهم، لأنّه ليس له سلطة على العباد، ولا معاد، ولا جنّة، ولا نار، ولا كتاب، ويعطيهم الحرية الكاملة، وإنّما يأتونه في المشاكل فحسب، ويتصوّرون أنّه سينفعهم وأنّهم إنّما يستمدّون منه العون. وأساساً فانّ "هوى النفس" ذاته يعدّ أكبر الأصنام وأخطرها، وهو الأصل لظهور الأصنام الاُخرى. 4 - اُسطورة الغرانيق مرّةً اُخرى من خلال بحثنا حول الأصنام الثلاثة التي كان العرب يهتّمون بها "أي اللات والعزّى ومناة" ويعبدونها - من خلال هذا البحث التاريخي وردت الإشارة إلى أنّ هذه الأصنام كانت تدعى بالغرانيق العلى وانّ شفاعتهنّ لترتجى. و "الغرانيق" جمع غُرنوق على زنة عصفور وبُهلول .. والغرنوق نوع من الطيور الرمادية أو السوداء، ولذلك كان العرب أحياناً إذا ذكروا الأصنام قالوا بعد ذكرها: تلك الغرانيق العُلى وانّ شفاعتهنّ لترتجى. وقد وردت هنا قصّة خرافية نقلتها بعض الكتب، وهي أنّ النّبي (ص) حين قرأ الآية: (أفرأيتم اللات والعزّى) أضاف عليها من عنده الجملتين هاتين: تلك الغرانيق العلى وانّ شفاعتهنّ لترتجى .. فكان سبباً لإرتياح المشركين وعدوّه إنعطافاً من قِبَلِ النّبي إلى عبادة الأصنام، وحيث أنّ ختام السورة يدعو الناس للسجود .. فإنّ المسلمين سجدوا وسجد المشركون أيضاً، فكان هذا الخبر مدعاةً لإشاعة إسلام المشركين في كلّ مكان! حتّى بلغ ذلك أسماع المهاجرين إلى الحبشة من المسلمين وسُرّ جماعة منهم إلى درجة أنّهم أحسّوا بالأمان فعادوا من مهجرهم إلى مكّة(8). ولكن كما فصّلنا ذلك في تفسير الآية 52 من سورة الحجّ فإنّ هذا الإدّعاء كذب مفضوح، وتبطله الدلائل والقرائن الكثيرة بجلاء. فاُولئك المفتعلون لهذه الكِذبة لم يفكّروا أنّ القرآن في ذيل هذه الآيات محلّ البحث ينقض عبادة الأصنام بصراحة، ويعدّها اتّباعاً لما تهوى النفس وظنونها، كما أنّه في الآيات التي تلي هذه الآيات يعنّف عبادة الأصنام بصراحة وبِشدّة، ويعدّها دليلا على عدم الإيمان والمعرفة، ويأمر النّبي بصراحة أن يقطع علاقته بهم ويعرض عنهم. فمع هذه الحال كيف يمكن أن يتلفّظ النّبي (ص) بهاتين الجملتين، أو أن يكون المشركون حمقى إلى درجة بحيث يصغون إلى هذه العبارة ولا يلتفتوا إلى الآيات بعدها التي تعنّف المشركين على عبادة الأصنام .. ويفرحوا ويسجدوا في آخر ما يُتلى مِن هذه السورة مع الساجدين. والحقيقة أنّ ناسجي هذه الاُسطورة سذّج للغاية وسطحيّون، ويمكن أن يكون عند قراءة النّبي للآية (أفرأيتم اللات والعزّى) تلا الشيطان بعدها أو الإنسان المتّصف بالشيطنة الجملتين بين المشركين الحاضرين "لأنّ هاتين الجملتين كانتا بمثابة الشعار الذي يودع المشركون بهما أسماء الأصنام" فاشتبه جماعة مؤقتاً بأنّهما تتمّة للآية!! إلاّ أنّه لا معنى لسجود المشركين في إنتهاء السورة، ولا لإنعطاف النّبي (ص)نحو عبادة الأصنام، لأنّ جميع آيات القرآن وسيرة النّبي (ص) في حياته كلّ ذلك يكشف عن أنّه لم يظهر أيّ إنعطاف نحو الأصنام في أي شكل وصورة، ولم يقبل بأيّ إقتراح في هذا الصدد، لأنّ الإسلام بأجمعه كان يتلخّص في التوحيد: لا إله إلاّ الله! فكيف يمكن لنبي الإسلام أن يُساومَ على روح محتوى الإسلام الأصيل. "وكان لنا في هذا المجال دلائل وإستدلالات ذيل الآية 52 من سورة الحجّ". ﴿إِنْ هِيَ﴾ ما الأصنام باعتبار الألوهية أو ما الصفة التي تصفونها بها ﴿إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم﴾ تشبيها ﴿مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ﴾ برهان تتمسكون به ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ الناشىء من التقليد والتوهم الباطل ﴿وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ﴾ وما تشتهيه أنفسهم ﴿وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى﴾ الرسول والقرآن فرفضوه.