(علّم القرآن) وبهذا فانّ أوّل وأهمّ نعمة تفضّل بها الله سبحانه، هي نعمة "تعليم القرآن"، وما أروعه من تعبير! حيث أنّنا إذا تأمّلنا جيّداً فإنّنا ندرك أنّ هذا الكتاب العظيم هو مصدر كلّ الخير والنعم والعطايا الإلهيّة العظيمة، كما أنّه وسيلة للوصول إلى السعادة والخيرات المادية والمعنوية.
والظريف هنا أنّ بيان نعمة (تعليم القرآن) ذُكرت قبل (خلق الإنسان) و (علّمه البيان) في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون الإشارة أوّلا إلى مسألة خلق الإنسان، ومن ثمّ نعمة تعليم البيان، ثمّ نعمة تعليم القرآن، وذلك إستناداً للترتيب الطبيعي، إلاّ أنّ عظمة القرآن الكريم أوجبت أن نعمل خلافاً للترتيب المفترض.
وقد جاءت هذه الآية جواباً لمشركي العرب حينما طلب منهم الرّسول (ص)السجود للرحمن، فسألوه "وما الرحمن"؟ (الفرقان ـ) فأجابهم بتوضيح ذلك حيث يقول سبحانه: "الرحمن هو الذي علّم القرآن وخلق الإنسان وعلّمه البيان".
وعلى كلّ حال فإنّ لإسم "الرحمن" أوسع المفاهيم بين أسماء الباريء عزّوجلّ بعد إسم الجلالة (الله) لأنّنا نعلم أنّ لله رحمتين: (الرحمة العامّة) و (الرحمة الخاصّة) واسم "الرحمن" يشير إلى رحمة الله العامّة التي تشمل الجميع، كما أنّ إسم "الرحيم" يشير إلى "الرحمة الخاصّة" بأهل الإيمان والطاعة، ولعلّه لهذا السبب لا يطلق إسم الرحمن على غير الله سبحانه (إلاّ إذا كانت كلمة عبد قبله)، أمّا وصف "الرحيم" فيقال لغير الله أيضاً، وذلك لأنّه لا أحد لديه الرحمة العامّة سوى الله تعالى، الرحمة أمّا الرحمة الخاصّة فإنّها موجودة في المخلوقات وإن كانت بصورة محدودة.
وفي حديث للإمام الصادق (ع) نقرأ ما يلي: "الرحمن اسم خاصّ بصفة عامّة، والرحيم اسم عام بصفة خاصّة".
(يعني أنّه اسم مخصوص لله، ورحمته تشمل جميع خلقه)، لكن الرحيم اسم عام لصفة خاصّة (يعني أنّه وصف يستعمل لله وللخلق)، وكما عرّف القرآن المجيد الرّسول الأكرم (ص) بأنّه (رؤوف رحيم) حيث يقول سبحانه: (بالمؤمنين رؤوف رحيم).(2)
وهنا يطرح التساؤل التالي: من الذي علّمه الله سبحانه القرآن الكريم.
ذكر المفسّرون في ذلك تفسيرات عديدة، فبعضهم قال: إنّ الله علّم القرآن لجبرئيل والملائكة، وقال آخرون: إنّ الله سبحانه علّمه للرسول، وذكر ثالث: أنّه عُلِّمَ للإنس والجنّ.
ولكون هذه السورة تبيّن الرحمة الإلهيّة للإنس والجنّ ولذا أكّد سبحانه إقرارهم بنعمه إحدى وثلاثين مرّة، وذلك بقوله: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان) لهذا فإنّ التّفسير الأخير هو الأنسب، أي أنّ الله علّم القرآن للإنس والجنّ بواسطة نبيّه الكريم محمّد (ص)(3).
﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ المشتمل على أصول الدين وفروعه.