التّفسير
إِعداد المؤمنين للجهاد:
بعد أن أوضحت الآية السابقة إِحجام المنافقين عن مشاركة المجاهدين في القتال تتوجه الآية (74) والتي تليها - بلغة مشجعة مشوقة - إِلى المؤمنين فتدعوهم إِلى الجهاد في سبيل الله، ونزول هذه الآيات حين كان الإِسلام مهدداً من قِبَلِ مختلف الأعداء - سواء من الداخل أو الخارج - يدل على أهميتها في تربية الروح الجهادية لدى المسلمين.
وتوضح الآية في بدايتها أنّ أعباء الجهاد يجب أن تكون على عاتق أُولئك النفر الذين باعوا حياتهم الدنيوية المادية الزائلة، مقابل فوزهم بالحياة الأُخروية الخالدة: (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة...) أي أن المجاهدون الحقيقيون هم وحدهم المستعدون للدخول في هذه الصفقة، بعد أن إنكشفت لهم دناءة الحياة المادية (وهو ما يفهم من لفظ الدنيا)، فهؤلاء أدركوا أن هذه الحياة لا قيمة لها تجاه الحياة الأبدية الخالدة، أمّا الذين يرون الأصالة في
الحياة المادية الدنيئة، ويعتبرونها أرفع وأكبر من الأهداف الإِلهية المقدسة والأهداف الإِنسانية السامية، فلا يمكن أن يكونوا أبداً مجاهدين صالحين.
وتستمر الآية مبينة أنّ مصير المجاهدين الحقيقيين الذين باعوا الحياة الدنيا بالآخرة واضح لا يخرج عن حالتين: إمّا النصر على الاعداء، أو الشهادة في سبيل الله، وهم في كلتا الحالتين ينالون الأجر والثواب العظيم من الله تعالى (...ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً) وبديهي أن جنوداً كهؤلاء لا يفهمون معنى الهزيمة، فهم يرون النصر إِلى جانبهم في الحالتين: سواء تغلّبوا على العدو، أو نالوا الشهادة في سبيل الله، ومثل هذه المعنويات كفيلة بأن تمهد الطريق للإِنتصار على العدو، ويعتبر التاريخ خير شاهد على أنّ هذه المعنويات هي العامل في إنتصار المسلمين على أعداء فاقوهم عدداً وعُدّة.
ويؤكّد هذا الأمر حتى المفكرون من غير المسلمين ممن كتبوا عن إنتصارات المسلمين السريعة التي حققوها في عصر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي العصور التالية، فهؤلاء المفكرون يرون أن منطق الفوز بإِحدى الحسنيين أحد العوامل الحاسمة في تقدم المسلمين.
يقول مؤرخ غربي مشهور في كتاب له في هذا المجال: إِنّ المسلمين لم يكونوا ليخافوا الموت في سبيل دينهم الجديد، لما وعدوا به من هبات إِلهية في الآخرة، وأنّهم لم يعتقدوا بأصالة خلود هذه الحياة الدنيا، ولذلك فهم قد تنازلوا عن هذه الحياة في سبيل العقيدة والهدف(1).
والجدير ذكره هنا هو أنّ هذه الآية - وآيات أُخرى من القرآن الكريم - اعتبرت الجهاد أمراً مقدساً إِذا كان في سبيل الله، ومن أجل إِنقاذ البشر، وإِحياء مبادىء الحق والعدالة والطهارة والتقوى، على عكس الحروب التي تشن بهدف التوسع وبدافع من التعصب والتوحش والإِستعمار والإِستغلال.
﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ﴾ يبيعون ﴿الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ﴾ أي إن صد المنافقون عن القتال فليقاتل المخلصون المختارون للآخرة على الدنيا ﴿وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ﴾ فيستشهد ﴿أَو يَغْلِبْ﴾ يظفر بالعدو ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.