التّفسير
الإِستعانة بالعواطف والمشاعر الإِنسانية:
كانت الآية السابقة تطالب المؤمنين بالجهاد معتمدة على إِيمانهم بالله واليوم الآخر، وقد اعتمدت أيضاً قضية الربح والخسارة في سياق دعوتها إِلى الجهاد، أمّا هذه الآية فتستند في دعوتها الجهادية إِلى العواطف والمشاعر الإِنسانية وتستثيرها في هذا الإِتجاه - فهي تخاطب مشاعر المؤمنين وعواطفهم بعرض ما يتحمله الرجال والنساء والأطفال المضطهدون من عذاب وظلم بين مخالب الطغاة الجبارين، وتطالب المؤمنين - مستثيرة عواطفهم في هذا الإِتجاه - عن طريق عرض المشاهد المأساوية التي يعاني منها المستضعفون وتدعوهم إِلى الجهاد في سبيل الله من أجل إِنقاذ هؤلاء المظلومين فتقول الآية: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين(1) من الرجال والنّساء والولدان...).
ولأجل إثارة المشاعر أكثر، تنبّه الآية المؤمنين بأنّ المستضعفين المذكورين لكثرة معاناتهم من البطش والإِرهاب والإِضطهاد قد إنقطع أملهم في النجاة ويئسوا من كل عون خارجي، فأخذوا يدعون الله لإِخراجهم من ذلك المحيط الرهيب المشحون بأنواع البطش والرعب والظلم الفاحش: (الذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) ويطلب المستضعفون من الله - أيضاً - أن يرسل لهم من يتولى الدفاع عنهم وينجيهم من الظالمين بقولهم: (واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً).
الآية - في الواقع - نشير إِلى أنّ الله قد استجاب دعاء المستضعفين، فهذه الرسالة الإِنسانية الكبرى قد أوكلت إِليكم أنتم أيّها المسلمون المخاطبون، فقد أصبحتم أنتم "الولي" المرتقب وأنتم "النصير" من قبل الله تعالى لإِنقاذ المستضعفين، من هنا عليكم أن تنهضوا بهذه المسؤولية وتستثمروا هذه المكانة الكبرى المناطة إِليكم ولا تضيعوها.
والآية هذه يستفاد منها أيضاً عدّة أُمور، هي:
1 - إِنّ الجهاد في سبيل الله وكما أُشير إِليه من قبل - ليس من أجل إنتزاع الأموال والسلطة والثروات من أيدي الأخرين، كما أنّه لا يستهدف إِيجاد أسواق لإستهلاك البضائع أو لفرض عقائد خاصّة بالقوّة، بل أنه يستهدف نشر الفضيلة والإِيمان والدفاع عن المظلومين والمضطهدين من النساء والرجال والولدان، ومن هذا المنطلق يتّضح أنّ للجهاد هدفين شاملين جامعين أشارت الآية إِليهما، أحدهما "ربّاني"، وآخر "إِنساني" يكمل أحدهما الآخر، ولا ينفصلان، بل كلاهما يعودان إِلى حقيقة واحدة.
2 - إِنّ الإِسلام يرى أن المحيط السالم الذي يمكن للإِنسان أن يعيش فيه، هو ذلك المحيط الذي يوفّر الحرية للإِنسان، ويضمن له العمل بما يعتقد دون مانع أو أذى، ويرى الإِسلام - أيضاً - أنّ المحيط الذي يسوده الكبت والإِرهاب والقمع، ولا يستطيع المسلم فيه إِظهار عقيدته أو إِعلان إِسلامه، فهو محيط لا يجدر بالإِنسان المسلم أن يبقى فيه، لذلك فإِن الآية تنقل عن المؤمنين دعاءهم إِلى الله لكي يخلصهم من مثل هذا الجو المليء بالقمع والإِرهاب.
وعلى الرغم من أن مكّة كانت ملجأ وملاذاً للمهاجرين، فإِنّ تفشي الظلم فيها جعل المؤمنين يدعون الله لإِنقاذهم من ظلم أهل هذه المدينة، وييسر لهم يسبي إِلى الخروج منها.
3 - وفي نهاية الآية نرى أنّ المؤمنين الذين يعانون من محيطهم الظالم، يسألون الله أن يبعث لهم من يتولى شؤونهم، وأن يمدهم - أيضاً - بمن ينصرهم على الظالمين ويخلصهم من مخالبهم، ويفهم من هذه الآية أهمية القيادة الصالحة، وأهمية قدرة هذه القيادة في إنقاذ المظلومين وضرورة إمتلاكها من العدد والعدّة ما يمكنها من القيام بسمؤوليتها الخطيرة هذه.
بذلك نستنتج من الآية العناصر التي يجب أن تتوفر في كل قيادة إِسلامية، وهي كمايلي:
أ - أن تكون القيادة صالحة (بما في كلمة الصلاح من شمولية).
ب - أن تكون قوية مقتدرة (أن تملك العدد والعدّة الكافيين، بالإِضافة إِلى الخطط العسكرية التي تضمن نجاح استخدام القوّة الموجودة).
4 - تبيّن الآية أنّ المؤمنين يطلبون حاجاتهم من الله العلي القدير وحده، ولا يلجأوون إِلى غيره في حوائجهم، حتى أنّهم يسألون الله أن يمدهم بمن يتولى الدفاع عنهم وينصرهم على الظالمين.
﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ﴾ في سبيل ﴿الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ وهو خلاصهم من أيدى المشركين أو المراد وفي خلاص المستضعفين ﴿مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ﴾ ممن لم يستطع الهجرة ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾ داعين ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ مكة ﴿الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾ صفتها وذكر لتذكير فاعله ﴿وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا﴾ يلي أمرنا ﴿وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ يعيننا فاستجاب الله لهم ويسر لبعض الخروج ولمن بقي نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) وليا وناصرا حين فتح مكة.