لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ولكِنَّ المولى العزيزَ الحكيمَ سبحانه وتعالى لا يسدّ بابَ رحمته في وجه التائبين، الذين تابوا من ذنوبهم وطهّروا أنفسهم، وندموا على ما فرَّطوا، وسعوا في تعويض ما فاتهم مِن البرِّ (إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ الله غفور رحيم). وقد اختلف المفسّرون في كون هذا الإِستثناء يعود إلى جملة (أُولئك هم الفاسقون) أو إِلى جملة (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً) ، فإذا كانَ الإِستثناءُ عائداً إلى الجملتينِ معاً، فمعنى ذلك قبول شهادتهم بعد التوبة وإزالَتُه الحكمَ بفسقهم. أمّا إذا كان عائداً إلى الجملة الأخيرة، فإن الحكم عليهم بالفسق سيزول عنهم في جميع الأحكام الإِسلامية، إلاَّ أن شهادتهم تظل باطلة لا تُقبَلُ منهم حتى آخر أعمارهم. إلاَّ أن المبادىء المعمول بها في "أُصول الفقه" تقول: "إن الإستثناء الوارد بعد عدّة جمل يعود إلى الأخيرةِ منها، إلاَّ في حالة وجود قرائن تنص على شمول هذه الجمل بهذا الإستثناء. وهنا يوجد مثل هذه القرينة، لأنّه عندما يزول الحكم بالفسق عن الشخص بتوبته إلى الله، فلا يبقى دليل على رَدُّ شهادته لأنّ عدم قبول الشهادة كان من أجل فسقه. فإذا تاب ورجعت إليه ملكة العدالة فلا يسمى فاسقاً. وجاءت أحاديث عن أهل البيت(ع) مؤكّدة هذا المعنى، فقد روى أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد وحماد عن القاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبدالله(ع) عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حداً، ثمّ يتوب ولا نعلم منه إلاّ خيراً أتجوز شهادته؟ قال: "نعم. ما يقال عندكم؟". قلت: يقولون: توبته فيما بينه وبين الله، ولا تقبل شهادته أبداً. فقال: "بئس ما قالوا: كان أبي يقول: إذا تاب ولم نعلم منه إلاّ خيراً جازت شهادته"(2) كما رويت أحاديث أُخرى في هذا الباب بهذا المعنى، ولكن يوجد حديث واحد يحمل على التقية. ومن الضروري أن نذكّر بأن كلمة "أبداً" في جملة (لا تقبلوا لهم شهادة أبداً) دليل على عمومية الحكم. وكما نعلم فإنّ كل عام يقبل الإستثناء (خاصّة الإستثناء المتصل به) ، فالرأي القائل أن لفظة (أبداً) تمنع تأثير التوبة خطأ مؤكّد. بحوث 1 - المراد من كلمة "رمى" "الرّمي" في الأصل هو اطلاق السهم أو قذف الحجر وأمثالهما، وطبيعي أنه يؤذي في معظم الأوقات، وقد استخدمت الكلمة هنا كناية عن اتهام الأشخاص وسبابهم ووصفِهم بما لا يليق، لأن هذه الكلمات كالسهم يصيب الشخص ويجرحه. ولعل ذلك هو السبب في استخدام هذه الآيات - والآيات المقبلة - لهذه الكلمة بشكل مطلق، فلم ترِدِ الآيةُ على هذا النحو (والذين يرمون المحصنات بالزنا) وإنّما جاءت (والذين يرمون المحصنات) لأنّ مفهوم "يرمون" وخاصّة مع ملاحظة القرائن الكلامية يستبطن معنى (الزنا) ، وعدم التصريح به ولا سيما عند الحديث عن النساء العفيفات نوع من الاحترام لهن. وهذا التعبير مثال بارزٌ لإكرام المتطهرين، ونموذج لإحترام الآدب والعفة في الكلام. 2 - لماذا أربعة شهود؟ من المعلوم أن شاهدين عادلين يكفيان - في الشريعة الإِسلامية - لإثبات حق، أوذنب اقترفه شخص ما، حتى وإن كان قتل النفس. أمّا في إثبات الزنا فقد اشترط الله تعالى أربعة شهود. وقد يكون ذلك لأن الناس يتعجلون الحكم في هذه المسألة، ويتطاولون بإلصاق تهمة الزنا بمجرّد الشك، ولهذا شدّد الإِسلام في هذا المجال ليحفظ حرمات الناس وشرفهم. أمّا في القضايا الأُخرى - حتى قتل النفس - فإن موقف الناس يختلف. إضافة إلى أن قتل النفس ذو طرف واحد في الدعوى، أي إنّ المجرم واحد، أمّا الزنا فذو طرفين، حيث يثبت الذنب على شخصين أو يُنْفَى عنهما، فإذ كان المخصص لكل طرف شاهدين، فيكون المجموع أربعة شهود. وهذا الكلام تضمنه الحديث التالي: عن أبي حنيفة قال: قلت لأبي عبدالله(ع) أيّهما أشدّ الزنا أم القتل؟ قال: فقال(ع): القتل: قال: فقلت: فما بال القتل جاز فيه شاهدان، ولا يجوز في الزنا إِلاَّ أربعة؟ فقال لي: ما عندكم فيه يا أبا حنيفة، قال: قلت: ما عندنا فيه إلاَّ حديث عمر، إنّ الله أجرى في الشهادة كلمتين على العباد، قال: ليس كذلك يا أبا حنيفة ولكنّ الزنا فيه حدّان، ولا يجوز أن يشهد كلّ اثنين على واحد، لأنّ الرجل والمرأة جميعاً عليهما الحدّ، والقتل إنّما يقام الحدّ على القاتل ويدفع عن المقتول(3). وهناك حالات معينة في الزنا، ينفذ الحد فيها على طرف واحد (كالزنا بالإِكراه وأمثاله) إلاّ أنها حالات مستثناة والمتعارف فيه اتفاق الطرفين، ومن المعلوم أن غايات الأحكام تتبع الغالب في الأفراد. 3 - الشّرط المهم في قبول التوبة قلنا مراراً: إنّ التوبة ليست فقط بالندامة على ما اقترفه الإنسان وتصميمه على تركه في المستقبل، بل تقتضي - إضافة إلى هذا - أن يقوم الشخص بالتعويض عن ذنوبه اقترفها، فإذا وجّه المرء تهمة لامرأة أو رجل طاهر ثمّ تاب، فيجب عليه أن يعيد الاعتبار إلى من تَضَرَّرَ باتّهامِه، وذلِك بأن يكذب هذه التهمة بَيْنَ كل الذين سمعوها عنه. فعبارة (واصلحوا) التي أعقبت عبارة (تابوا) هي إشارة إلى هذه الحقيقة، حيث أوجبت التوبة - كما قلنا - أولا، ثمّ إصلاح ما أفسده وإعادة ماء وجه الذي أساء إليه، وليس صحيحاً أن يتَّهم إنسانٌ أخاهُ ظلماً في ملأ عام، أو يعلن عن ذلك في الصحّف وأجهزة الإعلام، ثمّ يستغفر في خلوة داره - مثلا - ويطلب من الله الصفح عنه، وبالطبع لن يقبل الله مثل هذه التوبة. لذلك روي عن أئمّة المسلمين قال الرّاوي: سألته عن الذي يقذف المحصنات، تقبل شهادته بعد الحدّ إذا مات؟ قال: نعم، قلت، وما توبته؟ قال: لا يجىء فيكذب نفسه عند الإمام ويقول: "قد افتريت على فلانة ويتوب ممّا قال"(4). 4 - أحكام القذف: يوجد باب تحت عنوان "حد القذف" في كتاب الحدود. و"القذف" على وزن "فَعْلُ" يعني لغةً رمي الشيء نحو هدف بعيد، إلاّ أنّه استخدمت كلمة "رمى" كناية عن إتهام شخص ما في عرضه، أو بتعبير آخر: هو سباب يرتبط بهذه الأُمور. و "القذف" إذا جرى بلفظ صريح، وبأي لغة وأية صورة فحدّة - كما قلنا سابقاً - هو ثمانون جلدةً. وإذا لم يكن صريحاً فيعزّر القاذف. (ولم ترد في الشريعة الإِسلامية حدود للتعزير، بل وكل التعزير إلى تقدير القاضي، ليقرر حدودها وفق خصائص المذنب وكيفية وقوع الذنب والشروط الأُخرى). وإذا وجه شخص اتهاماً لمجموعة من الناس، وكرره بالنسبة لكل واحد منهم، فإنه يواجه حدّ القذف لكل تهمة تفوّه بها، أمّا إذا اتهمهم مرّة واحدة، فينفَّذُ بحقه حَدٌّ واحدٌ إن طالبوا القاضي جميعاً مرة واحدة. وأمّا إذا أقام كلّ واحد منهم الدعوى بصورة مستقلة، فإنه يعاقب المذنب بعدد هذه الدعاوي. وهذا الموضوع من الأهمية إلى درجة أنّه إذا إتهم شخصاً ومات المتهم، فلورثته الحق في المطالبة باقامة الحدّ على الذي إتهم مورثّهم بشيء. وبما أن هذا الحكم مرتبط بحق الشخص، فلصاحب الحق العفو عن الذنب وإسقاط الحدّ عنه، بإستثناء حالة تكرر هذا الذنب من شخص معين بحيث يعرض وجود وشرف المجتمع إلى الخطر، فيكون حسابه عسيراً. وإذا تسابّ شخصان سَقَط الحد عنهما، إلاَّ أنّ حاكم الشرع يعزرهما، ولهذا لا يجوز للشخص رَدُّ السّباب بالمثل، بَل لَهُ أنْ يطلب من حاكم الشرع معاقبة المذنب. وعلى كل حال فإنّ هذا الحكم الإِسلامي يَرْمي إلى المحافظة على سمعة الناس وشرفهم، وإلى الحيلولةِ دون انتشار المفاسد الإِجتماعية والأخلاقية التي يبتلي المجتمع بها عن هذا الطريق. ولو تُرِكَ المفسدون يعملون ما يحلو لهم يسبّون ويتهمون الأشخاص والمجتمع متى شاؤوا دون رادع، لتعرض شرف الناس وكرامتهم إلى الهتك، ولوصل الأمر بسبب هذه التهم الباطلة إلى وقوع الريبة بين الزوج وزوجته، وسوء ظن الأب بشرعية ولده إلى الخطر. ويسيطر الشك وسوء الظن على المجتمع كله. وتروّج الشائعات فتصيب الطاهرين أيضاً. وهنا يستوجب العمل بحزم كبير مثلما عامل الإِسلام هؤلاء المسيئين مروّجي التهم والشائعات. أجل، يجب أن يُضربوا ثمانين جلدة إزاء كل تهمة بالزنا ليقفوا عند حَدّهم، ولتتم المحافظة على كرامة الناس وشرفهم. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ عن القذف بأن يكذبوا أنفسهم والاستثناء من الجملتين وقيل من الأخيرة ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ عملهم ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لهم ﴿رَّحِيمٌ﴾ بهم.