ثمّ يتطرّق سبحانه إلى ذكر خمس صفات اُخرى حيث يقول: (هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن وهو بكلّ شيء عليم).
الوصف هنا بـ (الأوّل والآخر) تعبير رائع عن أزليّته وأبديّته تعالى، لأنّنا نعلم أنّه وجود لا متناهي وأنّه (واجب الوجود) أي أنّ وجوده من نفس ذاته، وليس خارجاً عنه حتّى تكون له بداية ونهاية، وبناءً على هذا فإنّه كان من الأزل وسيبقى إلى الأبد.
إنّه بداية عالم الوجود، وهو الذي سيبقى بعد فناء العالم أيضاً.
وبناءً على هذا فإنّ التعبير بـ (الأوّل والآخر) ليس له زمان خاصّ أبداً، وليس فيه إشارة إلى مدّة زمنية معيّنة.
والوصف بـ (الظاهر والباطن) هو تعبير آخر عن الإحاطة الوجودية - أي وجود الله - بالنسبة لجميع الموجودات، أي أنّه أظهر من كلّ شيء لأنّ آثاره شملت جميع مخلوقاته في كلّ مكان، وهو خفيّ أكثر من كلّ شيء أيضاً لأنّ كنه ذاته لم يتّضح لأحد.
ولقد عبّر بعض المفسّرين عن ذلك بأنّه: الأوّل بلا إبتداء، والآخر بلا إنتهاء، والظاهر بلا إقتراب، والباطن بلا إحتجاب.
وعبّر البعض الآخر عنه تعبيراً رائعاً آخر: الأوّل ببرّه، والآخر بعفوه، والظاهر بإحسانه وتوفيقه إذا أطعته، والباطن بستره إذا عصيته.
وبإختصار فإنّه محيط بكلّ شيء، وإنّه (بداية ونهاية، وظاهر وباطن) عالم الوجود.
وفسّر بعض المفسّرين (الظاهر) هنا بمعنى "الغالب" (من الظهور بمعنى الغلبة) ونلاحظ في بعض خطب نهج البلاغة قرينة على هذا المعنى حيث يقول (ع) حول خلق الأرض: "هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته"(4).
ولا مانع من جمع هذين التّفسيرين.
وعلى كلّ حال فإنّ أحد نتائج هذه الصفات المتقدّمة هو ما جاء في نهاية الآية الكريمة: (وهو بكلّ شيء عليم) إذ أنّ من كان في البداية ويبقى في النهاية، وموجود في ظاهر وباطن العالم...سيكون عالماً بكلّ شيء قطعاً.
بحث
جمع الأضداد في صفات الله:
من الواضح أنّ الكثير من الصفات لا يمكن جمعها فينا نحن البشر، وكذا الأمر بالنسبة للموجودات الاُخرى.
فمثلا: من كان في أوّل الصفّ لا يمكن أن يكون في نفس الوقت في آخره، وكذلك إذا كنت ظاهراً فليس بالمقدور أن تكون في نفس الوقت باطناً والعكس صحيح أيضاً.
والسبب في ذلك هو محدودية وجودنا، فالوجود المحدود لا يستطيع أن يكون غير ذلك، إلاّ أنّ الحديث عندما يكون عن صفات الله فسيتغيّر الأمر، حيث يمكن الجمع في هذه الحالة بين الظاهر والباطن، وبين البداية والنهاية، وذلك لطبيعة صفات الذات الإلهيّة المقدّسة اللا متناهية، ولذلك فلا عجب هنا.
وقد وردت أحاديث عن رسول الله (ص) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) فيها توضيحات رائعة تساعد على تفسير هذه الآيات ذات المحتوى العميق، ومن جملتها ما ورد في صحيح مسلم عن الرّسول الأكرم (ص) أنّه قال: "اللهمّ أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء"(5).
ويقول أمير المؤمنين (ع): "ليس لأوّليّته إبتداء، ولا لأزليّته إنقضاء، هو الأوّل لم يزل، والباقي بلا أجل...الظاهر لا يقال ممّ؟ والباطن لا يقال فيم؟"(6).
ويقول الإمام المجتبى (ع) في خطبة له: "الحمد لله الذي لم يكن فيه أوّل معلوم، ولا آخر متناه...فلا تدرك العقول وأوهامها، ولا الفِكَرُ وخطراتها.
ولا الألباب وأذهانها صفته، فتقول متى ولا بدع ممّا؟ ولا ظاهر على ما؟ ولا باطن فيما؟"(7).
﴿هُوَ الْأَوَّلُ﴾ السابق لكل الموجودات بلا ابتداء ﴿وَالْآخِرُ﴾ الباقي بعد فنائها بلا انتهاء ﴿وَالظَّاهِرُ﴾ بكثرة الدلائل على وجوده أو الغالب على كل شيء ﴿وَالْبَاطِنُ﴾ من إدراك العقول حقيقة ذاته أو العالم بباطن كل شيء ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.