التّفسير:
انظرونا نقتبس من نوركم:
لقد بشّر الله المنفقين في آخر آية من الآيات السابقة بالأجر الكريم، وإستمراراً للبحث فالآيات أعلاه تتحدّث عن هذا الأجر، وتبيّن مدى قيمته وعظمته في اليوم الآخر، يقول سبحانه: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم).
وبالرغم من أنّ المخاطب هنا هو الرّسول الكريم (ص) إلاّ أنّ من الواضح أنّ الآخرين يرقبون هذا المشهد أيضاً، ولكن بما أنّ تشخيص المؤمنين من الاُمور اللازمة للرسول (ص) ليتفقدهم فكانت هذه العلامة: (نورهم الذي يسعى بين أيديهم...) دالّة عليهم، وبذلك تكون معرفتهم أيسر.
وبالرغم من أنّ المفسّرين ذكروا إحتمالات متعدّدة لهذا "النور إلاّ أنّ المقصود منه - في الواقع - تجسيم نور الإيمان، لأنّه سبحانه عبّر بـ (نورهم) ولا عجب، لأنّ في ذلك اليوم تتجسّد أعمال البشر، فيتجسّد الإيمان الذي هو نور هدايتهم بصورة نور ظاهري، ويتجسّد الكفر الذي هو الظلام المطلق بصورة ظلمة ظاهرية.
كما نقرأ في الآية الكريمة: (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم)(1).
وجاء في الآيات القرآنية الاُخرى أنّ الله تعالى يهدي المؤمنين من الظلام إلى النور: (يخرجهم من الظلمات إلى النور).
التعبير بـ "يسعى" من مادّة (سعى) - بمعنى الحركة السريعة - دليل على أنّ المؤمنين أنفسهم يسيرون بسرعة في طريق المحشر باتّجاه الجنّة حيث مركز السعادة السرمدية، ذلك لأنّ الحركة السريعة لنورهم ليست منفصلة عن حركتهم السريعة.
والجدير بالملاحظة هنا أنّ الحديث جاء عن (نورين) (النور الذي يتحرّك أمامهم، والنور الذي يكون عن يمينهم) وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى قسمين مختلفين من المؤمنين:
قسم المقرّبين وأصحاب الوجوه النورانية، وهؤلاء نورهم يتحرّك أمامهم.
والقسم الثاني وهم أصحاب اليمين ويكون نورهم عن أيمانهم، وذلك كناية عن صحيفة أعمالهم التي تعطى بأيديهم اليمنى ويخرج النور منها.
كما يوجد إحتمال آخر أيضاً وهو أنّ النورين إشارة إلى مجموعة واحدة، وما يقصد بنور اليمين هو كناية عن النور الذي يصدر عن أعمالهم الصالحة ويضيء جميع أطرافهم.
وعلى كلّ حال فإنّ هذا النور هو دليلهم إلى الجنّة، وعلى ضوئه يسيرون بسرعة إليها.
ومن جهة ثالثة بما أنّ مصدر هذا النور الإلهي هو الإيمان والعمل الصالح فلا شكّ أنّه يختلف بإختلاف درجات الإيمان ومستوى الأعمال الصالحة للبشر، فالأشخاص ذوو الإيمان الأقوى فإنّ نورهم يضيء مسافة أطول، والذين لهم مرتبة أقل يتمتّعون بنور يناسب مرتبتهم، حتّى أنّ نور بعضهم لا يضيء موضع أقدامهم، كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم في نهاية الآية مورد البحث: "يقسّم النور بين الناس يوم القيامة على قدر إيمانهم"(2).
وهنا يصدر هذا النداء الملائكي بإحترام للمؤمنين: (بشراكم اليوم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم).
أمّا المنافقون الذين سلكوا طريق الظلام والكفر والذنوب والمعصية، فإنّ صراخهم يعلو في مثل تلك الساعة ويلتمسون من المؤمنين شيئاً من النور، لكنّهم يواجهون بالردّ والنفي.
﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم﴾ الذي يهتدون به إلى الجنة ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾ إذ بها يعطون كتبهم وهو أمارة نجاتهم ويقال لهم ﴿بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الظفر بالبغية.