غير أنّ هذا الحائط ليس من النوع الذي يمنع عبور الصوت حيث يضيف سبحانه: أنّ المنافقين (ينادونهم ألم نكن معكم) لقد كنّا نعيش معكم في هذه الدنيا فما الذي حدث وإنفصلتم عنّا وذهبتم إلى الروح والرحمة الإلهية وتركتمونا في قبضة العذاب؟
(قالوا: بلى) كنّا معكم في أماكن كثيرة في الأزقّة والأسواق، في السفر والحضر، وكنّا أحياناً جيراناً أو في بيت واحد...نعم كنّا معاً، إلاّ أنّ إختلافاتنا في العقيدة والعمل كانت هي الفواصل بيننا، لقد كنتم تسيرون في خطّ منفصل عن خطّنا وكنتم غرباء عن الله في الاُصول والفروع، لذا فأنتم بعيدون عنّا.
ثمّ يضيفون: لقد إبتليتم بخطايا وذنوب كثيرة من جملتها:
1 - (ولكنّكم فتنتم أنفسكم) وخدعتموها بسلوك طريق الكفر والضلال.
2 - (وتربّصتم) وانتظرتم موت النبي وهلاك المسلمين وإنهدام أساس الإسلام، بالإضافة إلى التهرّب من إنجاز كلّ عمل إيجابي وكلّ حركة صحيحة، حيث تتعلّلون وتماطلون وتسوّفون إنجازها.
3 - (وارتبتم) في المعاد وحقّانية دعوة النبي والقرآن ...
4 - وخدعتكم الآمال (وغرّتكم الأماني حتّى جاء أمر الله).
نعم هذه الأماني لم تعطكم مجالا - حتّى لحظة واحدة - للتفكّر الصحيح، لقد كنتم مغمورين في تصوّراتكم وتعيشون في عالم الوهم والخيال، واستولت عليكم أُمنية الوصول إلى الشهوات والأهداف المادية.
5 - (وغرّكم بالله الغرور) إنّ الشيطان غرّكم بوساوسه في مقابل وعد الله عزّوجلّ، فتارةً صوّر لكم الدنيا خالدة باقية واُخرى صوّر لكم القيامة بعيدة الوقوع.
وفي بعض الأحيان غرّكم بلطف الله والرحمة الإلهية، وأحياناً جعلكم تشكّون في أصل وجود الله العظيم الخالق.
هذه العوامل الخمسة هي التي فصلت خطّكم عنّا بصورة كليّة وأبعدتنا عنكم وأبعدتكم عنّا.
"فتنتم" من مادّة (فتنة) جاءت بمعاني مختلفة كـ (الإمتحان والإنخداع، والبلاء والعذاب، والضلالة والإنحراف، والشرك وعبادة الأصنام) والمعنيان الأخيران هنا أنسب أي الضلال والشرك.
"تربّصتم" من مادّة (تربّص) في الأصل بمعنى الإنتظار، سواء كان إنتظار البلاء والمصيبة أو الكثرة والنعمة، والمناسب الأكثر هنا هو إنتظار موت الرّسول (ص) وإنتكاسة الإسلام، أو أنّ الإنتظار بمعنى التعلّل في التوبة من الذنوب وإنجاز كلّ عمل من أعمال الخير.
"وارتبتم" من مادّة (ريب) تطلق على كلّ شكّ وترديد وما سيتوقّع فيما بعد، والمعنى الأنسب هنا هو الشكّ بالقيامة أو حقّانية القرآن الكريم.
وبالرغم من أنّ مفهوم الكلمات المستعملة في الآية واسع، إلاّ أنّ من الممكن أن تكون لبيان المسائل المذكورة بالترتيب، من مسألة "الشرك" وإنتظار "نهاية عمر الإسلام والرّسول" ومن ثمّ "الشكّ في المعاد" الذي يؤدّي إلى "التلوّث العملي" عن طريق "الإنخداع بالأماني" والشيطان، وبناءً على هذا فالجمل الثلاث الاُولى من الآية ناظرة إلى الاُصول الثلاثة للدين، والجملتان الاُخريتان بعدهما ناظرتان إلى فروع الدين
﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ﴾ أي موافقين لكم ظاهرا ﴿قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ بالنفاق ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ بالمؤمنين الدوائر ﴿وَارْتَبْتُمْ﴾ وشككتم في الدين ﴿وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ﴾ الآمال الطوال ﴿حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ﴾ بالموت ﴿وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ الشيطان أو الدنيا