سبب النزول:
وردت لنزول الآية الاُولى أعلاه عدّة أسباب: منها أنّ الآية المذكورة نزلت - بعد سنة من هجرة الرّسول (ص) - تتحدّث عن المنافقين، وذلك أنّهم سألوا سلمان الفارسي: حدّثنا عمّا في التوراة، فخبّرهم أنّ القرآن أحسن القصص كما في قوله تعالى: (الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربّهم ...)(1) وعاودوا بعدها سؤال سلمان فجاءهم هذا التوبيخ والعتاب.
وقيل كان الصحابة بمكّة مجدبين، فلمّا هاجروا أصابوا الخير والنعمة، فتغيّروا عمّا كانوا عليه، فقست قلوبهم فعوتبوا من ذلك(2).
كما نلاحظ أسباب نزول اُخرى للآية، وبما أنّها تتحدّث عن نزول هذه الآية في مكّة، لذا فإنّها غير قابلة للإعتماد، لأنّ المشهور أنّ جميع هذه السورة قد نزلت في المدينة.
التّفسير:
إلى متى هذه الغفلة؟
بعد ما وجّهت الآيات السابقة مجموعة من الإنذارات الصارمة والتنبّهات الموقظة، وبيّنت المصير المؤلم للكفّار والمنافقين في يوم القيامة، جاءت الآية الاُولى مورد البحث بشكل إستخلاص نتيجة كليّة من ذلك، فتقول: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله، وما نزل من الحقّ، ولا يكونوا كالذين اُوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون)(3).
"تخشع" من مادّة "خشوع" بمعنى حالة التواضع مقترنة بالأدب الجسمي والروحي، حيث تنتاب الإنسان هذه الحالة - عادةً - مقابل حقيقة مهمّة أو شخصية كبيرة.
ومن الواضح أنّ ذكر الله عزّوجلّ إذا دخل أعماق روح الإنسان، وسماع الآيات القرآنية بتدبّر فإنّها تكون سبباً للخشوع، والقرآن الكريم هنا يلوم بشدّة قسماً من المؤمنين لعدم خشوعهم أمام هذه الاُمور.
لأنّه قد إبتلى كثير من الاُمم السابقة بمثل هذا من الغفلة والجهل.
وهذه الغفلة تؤدّي إلى قساوة القلب وبالتالي إلى الفسق والعصيان.
ولهذا هل نقتنع بادّعاء الإيمان، والعيش في رفاه والإنشغال بالأكل والشرب ونمرّ أمام هذه المسائل المهمّة ببساطة؟ وهل أنّ أعمالنا ومسؤولياتنا تتناسب مع الإيمان الذي ندّعيه؟
هذه التساؤلات لابدّ من الإجابة عنها مع أنفسنا بهدوء وموضوعية.
جملة: (طال عليهم الأمد) قد تكون إشارة إلى الفاصلة الزمنية بينهم وبين أنبيائهم، ويحتمل أن يكون المقصود بها طول العمر، أو طول الأمانيّ، أو عدم نزول العذاب الإلهي منذ مدّة طويلة، أو كلّ ذلك، لأنّ كلّ واحدة من هذه الأسباب يمكن أن تكون عاملا للغفلة والقساوة، وهي بدورها تسبّب الذنب والإثم.
جاء في حديث للإمام علي (ع): "لا تعالجوا الأمر قبل بلوغه فتندموا، ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم"(4).
ونقرأ في حديث آخر عن لسان عيسى المسيح (ع): "لا تكثروا بالكلام بغير ذكر الله فتقسوا قلوبكم، فإنّ القلب القاسي بعيد من الله، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنّكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنّكم عبيد، والناس رجلان: مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية"(5).
ولأنّ إحياء القلوب الميتة لا يكون إلاّ بالذكر الإلهي، الحياة الروحية التي لن تكون إلاّ بظلّ الخشوع والخضوع وخاصّة في أجواء القرآن الكريم ...لذا فإنّ القرآن يشبّه عملية إحياء القلوب الميتة بإحياء الأراضي الميتة، فكما أنّ هذه تحيا ببركة نزول الأمطار كذلك فإنّ القلوب تحيا بذكر الله سبحانه...حيث يضيف سبحانه في الآية اللاحقة: (اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها قد بيّنا لكم الآيات لعلّكم تعقلون).
هذه الآية تشير إلى إحياء الأراضي بوسيلة المطر، كذلك فإنّ إحياء القلوب الميتة يكون بواسطة ذكر الله وقراءة القرآن المجيد الذي نزل من سماء الوحي على القلب الطاهر للنبي محمّد (ص) وكلاهما جديران بالتدبّر والتعقّل، لذا اُشير في الروايات السابقة إلى كليهما.
ونقرأ في حديث للإمام الصادق (ع) في تفسيره لهذه الآية أنّه قال: "العدل بعد الجور"(6).
كما نقرأ في حديث عن الإمام الباقر (ع) في تفسيره للآية: (اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها) قال: "يحيي الله تعالى الأرض بالقائم بعد موتها، يعني بموتها كفر أهلها، والكافر ميّت"(7).
ومن الواضح أنّ هذه التفاسير في الحقيقة هي بيان لمصاديقها البارزة، ولا تحدّ من مفهوم الآية أبداً.
وجاء في حديث آخر عن الإمام الكاظم (ع): "فإنّ الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر"(8).
﴿أَلَمْ يَأْنِ﴾ أما حان ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ قيل لما قدم الصحابة المدينة أصابوا نعمة وريفا فتغيروا عما كانوا عليه فنزلت ﴿وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ عطف لأحد وصفي القرآن على الآخر ﴿وَلَا يَكُونُوا﴾ عطف على تخشع أو نهي ﴿كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ﴾ المدة بطول أعمارهم أو ما بينهم وبين أنبيائهم ﴿فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ خارجون عن دينهم.