ولمزيد من التأكيد على عدم التعلّق بالدنيا، وعدم الفرح والغرور عند إقبالها، أو الحزن عند إدبارها، يضيف سبحانه: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها إنّ ذلك على الله يسير)(1).
نعم، إنّ المصائب التي تحدث في الطبيعة كالزلازل والسيول والفيضانات والآفات المختلفة، وكذلك المصائب التي تقع على البشر كالموت وأنواع الحوادث المؤلمة التي تشمل الإنسان، فإنّها مقدّرة من قبل ومسجّلة في لوح محفوظ.
والجدير بالإنتباه أنّ المصائب المشار إليها في الآية هي المصائب التي لا يمكن التخلّص منها، وليست ناتجة عن أعمال الإنسان.
(بتعبير آخر الحصر هنا حصر إضافي).
والشاهد في هذا الكلام قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)(2)
وبملاحظة أنّ الآيات يفسّر بعضها البعض الآخر يتبيّن لنا عندما نضع هاتين الآيتين جنباً إلى جنب أنّ المصائب التي يبتلى بها الإنسان على نوعين:
الأوّل: المصائب التي تكون مجازاة وكفّارة للذنوب، كالظلم والجور والخيانة والإنحراف وأمثالها، فإنّها تكون مصدراً للكثير من مصائب الإنسان.
الثاني: من المصائب هو ما لا تكون للإنسان يد فيه، وتكون مقدّرة وحتمية وغير قابلة للإجتناب حيث يبتلي فيها الفرد والمجتمع، لذا فإنّ الكثير من الأنبياء والأولياء والصالحين يبتلون بمثل هذه المصائب.
إنّ هذه المصائب لها فلسفة دقيقة حيث أشرنا إليها في أبحاث معرفة الله والعدل الإلهي ومسألة الآفات والبلايا.
ونقرأ في هذا الصدد القصّة التالية: عندما أدخل الإمام علي بن الحسين (ع)مغلولا مكبّلا في مجلس يزيد بن معاوية، فالتفت يزيد إلى الإمام; وقرأ آية سورة الشورى: (ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) وكان يريد أن يظهر أنّ مصائبكم كانت نتيجة أعمالكم، وبهذا أراد الطعن بالإمام (ع) بهذا الكلام، إلاّ أنّ الإمام ردّ عليه فوراً وقال: كلاّ، ما نزلت هذه فينا، إنّما نزلت فينا: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها)(3).
ولنا بحث مفصّل في هذا المجال في تفسير الآية رقم30 من سورة الشورى(4).
أتباع أهل البيت أيضاً عرفوا نفس المعنى، في هذه الآية، إذ نقل أنّ الحجّاج عندما جيء له بسعيد بن جبير وصمّم على قتله، بكى رجل من الحاضرين.
قال سعيد: وما يبكيك؟ فأجاب: للمصاب الذي حلّ بك، قال: لا تبكِ فقد كان في علم الله أن يكون ذلك، ألم تسمع قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها)(5).
ومن الطبيعي أنّ كلّ الحوادث التي تحدث في هذا العالم مسجّلة في لوح محفوظ وفي علم الله عزّوجلّ اللاّ محدود، وإذا أشرنا هنا إلى المصائب التي تقع في الأرض وفي الأنفس فقط، فلأنّ موضوع الحديث بهذا الإتّجاه، كما سنرى في الآية اللاحقة التي يستنتج منها الموضوع نفسه.
وبالضمن فإنّ جملة: (إنّ ذلك على الله يسير) تشير إلى تسجيل وحفظ كلّ هذه الحوادث في لوح محفوظ مع كثرتها البالغة، وذلك سهل يسير على الله تعالى.
والمقصود من "اللوح المحفوظ" هو: العلم اللا متناهي لله سبحانه، أو صحيفة عالم الخلقة ونظام العلّة والمعلول، والتي هي مصداق العلم الفعلي لله سبحانه "فتدبّر".
ولنلاحظ الآن ما هي فلسفة تقدير المصائب في اللوح المحفوظ، ومن ثمّ بيان هذه الحقيقة في القرآن الكريم؟
﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ﴾ كجدب ووباء ﴿وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ﴾ كمرض وأذى ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ إلا مثبت في اللوح أو في علمه تعالى ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾ نخلقها أي المصيبة أو الأرض أو الأنفس ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ الإثبات ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾.